محمد صلاح البدري يكتب : مولانا.. إبراهيم عيسى !

لم أكن قد تجاوزت السادسة عشر من عمري حين بدأت في التعرف علي كتب الأستاذ هيكل .. كان الكتاب الأول هدية من قريب مثقف .. طلب مني أن أقرأه ثم أبلغه برأيي فيه ..

كم كان الكتاب ممتعاً..لقد أنهيته في يومين فقط .. ثم أبلغته بإعجابي الشديد بهذا الكاتب العبقري الذي تمكن من جذبي للكتاب حتي انتهيت منه سريعاً.. الطريف أنه قد سألني سؤالاً غريباً .. في أي فصل من فصول الكتاب بدأ هيكل في التدليس؟!

كان سؤاله صادماً حقاً.. وقتها لم أكن قد إستوعبت فكرة أن أجد بين صفحات الكتب من يحاول الكذب أو التلفيق .. أو حتي التدليس ! .. لسبب ما كنت أتخيل أن الكتب و الجرائد تخضع لرقابة معينة تجعل كل ما يكتب فيها هو عين الصواب !

لم أكن أعرف شيئاً عن الفروق بين الخبر والمعلومة و الرأي .. و عن قدرة البعض علي مزجهم ببعض .. ليخرج منتجاً يتمكن به من إقناع القارئ بما يريد ! فيغلق الكتاب ليتبني وجهة نظر الكاتب .. بل و يدافع عنها ويحارب تحت لوائها!

لقد أعدت قراءة الكتاب وقتها .. و بدأت في إستيعاب أول درس في عالم القراءة !

لاشك أنك إن بحثت عن وريث للأستاذ هيكل في عالم الصحافة فلن تجد أحق من إبراهيم عيسي .. كلاهما حاد الذكاء .. غزير المعرفة.. كلاهما يملك من أدوات اللغة و أساليب الإقناع ما يجعلك تؤمن بما يطرحه من أفكار.. بل و ربما تدافع عنها في نهاية الكتاب !

مؤخراً شاهدت فيلم مولانا .. الرواية التي كتبها ابراهيم عيسي و أخرجها القدير مجدي أحمد علي ..و أحدثت ضجة منذ أن ظهرت في الأسواق و حتي تحولت لفيلم في ذاكرة السينما!

لا انكر أنني كنت متحفزاً من بداية الفيلم.. فاجتماع المؤلف والكاتب الذان أعرف جيداً مدي كراهيتهما للإسلام السياسي يجعل المنتج متحيزاً بالضرورة .. بل و ربما يسقط الفيلم في فخ الإستهزاء بالدين نفسه .. و لكنني كنت مخطئاً بالفعل!

الفيلم عن رواية ضعيفة التماسك.. أقرب لمجموعة من المقالات الطويلة لإبراهيم عيسي التي تم ربطها بخيوط درامية متهالكة .. و لكن حرفية مجدي أحمد علي تمكنت من السيطرة علي هذا الضعف بتسلسل متسارع جميل .. و مشاهد حية قوية ..!

الفيلم يطرح مجموعة من التساؤلات القديمة التي يبحث الكثيرون عن إجابات لها .. و يعرض وجهة نظر الكاتب فيها بدون مواربة.. حتي أنني تخيلت صورة إبراهيم عيسي نفسه بدلاً من البطل ” حاتم ” أو الفنان عمرو سعد أكثر من مرة .. إنه اسلوبه الساخر دائماً.. و فكره الذي يبعث علي الحيرة مرات كثيرة .. و رؤيته لثوابت الدين وسيرة الصحابة التي عرضها مراراً في برامجه التلفزيونية القديمة ..!

الفيلم يستعرض ثقافة الكاتب العريضة في تاريخ الإسلامي .. و يتعرض لسلبيات الدعوة الدينية في مصر منذ عقود طويلة .. دون ان يقع في اتهامات بالاستهزاء من الأزهر او شيوخه .. وإن لم ينفي تقاعسهم الشديد !

لاشك ان كراهية الكاتب لأمن الدولة و لعائلة مبارك تحديداً كانت أوضح من أن يتم إخفاؤها .. و لكن السياق الدرامي للاحداث جعلها مبررة بعض الشيء!

لا يجيب الفيلم عن أسئلة بعينها.. ولكنه يقر أن الدين قد تحول إلي سياسة منذ أن خرج من مهده .. وأن محاولة الفصل بينهم تحتاج الي الكثير من الفطنة الغائبة عنا في العصر الحديث!

نحتاج الي هذه النوعية من الأفلام التي تصرخ فينا بسرعة تجديد الخطاب الديني .. كما نحتاج الي أن نتعلم أن ندرك اللحظة .. التي سيبدأ الكاتب في التدليس ..و طرح رأيه و كأنه حقيقة واقعة!