محمد صلاح البدري يكتب : كان اسمها يصلح لكل الأديان

يقولون أن الأدب ينضج بالتجارب الفاشلة.. فالأدباء هم ضحايا قصص حب لم تكتمل.. أو صدمات نفسية قاسية.. و كلما كانت الصدمة أقوي أو كانت التجربة أكثر قسوة.. كلما كان الأديب أكثر موهبة..!

لا أعرف مقدار صحة تلك المقولة .. كل ما أذكره هو تجربتي مع “ندي”.. – والاسم مستعار بالطبع- تلك الفتاة الرقيقة الساحرة التي سلبت قلبي منذ أن رأيتها لأول مرة..!

مازلت أذكر هذا اليوم جيداً.. هو يومي الأول في الحياة الجامعية.. و ذلك الزحام حول مكتب شئون الطلبة من طلبة الفرقة الأولي  لاستخراج “الكارنيه” ..ثم الزحام نفسه حول لوحة الإعلانات بالكلية لنقل الجدول ..

المئات من الصور وطوابع “الدمغة” أمام الموظف المسكين .. و المئات من النداءات عليه ومحاولة الحديث معه من كتلة بشرية تقف أمامه في استجداء للانتهاء من أوراقهم بصورة أسرع ..! فقط هناك البعض الذين فشلوا في الالتحام بتلك الكتلة البشرية يقفون علي مسافة أبعد نسبياً علي أمل ضئيل أن يتمكنوا من الوصول للموظف الغارق علي مكتبه بعد انتهاء الزحام..

وقتها فقط.. رأيتها ..!

كانت خمرية البشرة .. سوداء الشعر .. تحمل نظرة حائرة في عينيها الجميلتين تزيدها فتنة..ترتدي فستاناً فطوليا أبيض اللون ..يحمل علي أكمامه القصيرة المنتفخة  نقوشاً مثل التي تبدو علي أطرافه السفلي  ..باختصار كانت أشبه بالملائكة التي يصفونها في قصص الأطفال .. لم يكن ينقصها سوي تلك الأجنحة البيضاء علي ظهرها ..و تلك العصا التي تتناثر منها النجوم كلما لوحت بها ..يبدو أنها كانت من الذين ينتظرون انتهاء الزحام حني لا يتسخ ثوبها الجميل!

لقد خفق قلبي بشدة حين وقعت عليها عيناي .. لم يحتاج الأمر للكثير من الوقت كي أشرع في في تحضير السيناريوهات للتعرف عليها ..والتي لم ألبث أن نسيتها كلها حين وقفت أمامها ..و التقت عينانا.. !

كل ما نجحت فيه هو أن أعرف أسمها .. عندما عرضت عليها أن أستخرج لها “الكارنيه” بدلاً من أن تتلوث هي في ذلك الزحام .. فالملائكة لا يتزاحمون حول موظف بائس أبداً!!

لم تكن بداية علاقتي بالشعر وقتها.. فقد كانت محاولاتي لقرض شعراً بدائياً فطوليا قد بدأت قبلها بأعوام.. كانت قصائد ركيكة من التي تتحدث عن الوطنية و عن الوحدة العربية قد وجدت طريقها للنشر في جريدة مغمورة.. مصحوبة بصورة لي و قد كتب تحتها اسمي و صفي الدراسي ..لقد كنت وقتها في الصف السادس الابتدائي  .. و لكنها كانت المرة الأولي التي أمسك فيها بالقلم لأكتب شعراً في أنثي !

لقد امتلأت أوراقي  بقصائد مطولة .. تمتلئ بأخطاء الوزن و كسور القوافي ..تملكني شيطان الشعر فترة طويلة.. ولكنه كان شيطاناً فاشلاً علي مايبدو!..

كنت مبهوراً بكل تلك المشاعر التي تتفجر علي الأوراق أمامي.. لم يكن شعراً جيداً بأي حال.. و لكنني كنت أعرضها علي أصدقائي بفخر شديد.. وأنا أتأملها كل يوم من بعيد.. لتلهمني قصيدة جديدة رديئة!

حتى كان ذلك اليوم الذي قررت فيه أن أتحدث معها.. سأتغلب علي خجلي و خوفي و أذهب إليها لأخبرها بما يعتمل في صدري .. وربما عرضت عليها ما كتبته فيها من شعر .. ستعجب به حتماً حتى و إن كان سيئاً.. لا توجد أنثي لا تعجب بشعر كُتب من أجلها حتى ولو كان يشبه قصائد “اللمبي”  لخطيبته!

كان اليوم المشهود..إستجمعت قواي و رغبتي في أن تشعر بي .. و ذهبت إلي حيث تقف مع صديقاتها.. إستأذنتها أن أتحدث اليها علي إنفراد.. إبتسمت إبتسامتها الساحرة و إنزوت معي في فضول .. ثم كانت الكارثة!!

لقد إصطدمت عيني بذلك الصليب الذي تعلقه علي صدرها.. كان صليباً ذهبياً صغيراً يتدلي من سلسلة رفيعة رقيقة مثلها.. ربما لهذا السبب لم ألاحظه من قبل!

المشكلة أنني لم أشك في الأمر من قبل أبداً.. لم يكن إسمها الثلاثي يحمل ما يشير الي أنها مسيحية الديانة أبداً.. كان اسماً يصلح لكل الأديان !

لقد كانت الصدمة قاسية.. فقد إنهارت أحلامي التي بنيتها طوال الفترة السابقة.. فلم أتوقع أن يحول بيني و بينها إختلاف الديانة !

لم اكتب شعراً بعدها قط..و توقفت علاقتي بالشعر كله.. و ربما كان ذلك من حسن حظ الشعر العربي كله..فإذا كان الأدب ينضج بالتجارب الفاشلة.. فالبعض منها قد ينقذ الأدب أيضاً..!