محمد صلاح البدري يكتب: "قلب" في متحف اللوفر

في متحف اللوفر ممر طويل.. ستجده بسهولة حتي وإن كنت تزوره للمرة الأولي ..إنه ممر واسع مبطن بحجارة  قديمة.. تشبه تلك الأحجار التي بنيت بها الأهرامات ..ربما تقل حجماً قليلاً.. الأحجار متراصة علي جانبي الممر لتوحي للمار بأنه في مكان أثري بالكامل.. إنه نوع من تنسيق المشهد أمام الزائرين ليعيشوا في الجو ..!

الأجمل أن الممر يفضي الي القسم المصري بالمتحف.. والذي يحتوي علي آثار مصرية ..تقترب في عددها تلك الموجودة في المتحف المصري ذاته ..!

الطريف أنها المرة الاولي التي الاحظ فيها ذلك النقش.. علي الرغم من أنني قد زرت المتحف أكثر من مرة …إنه قلب تم نحته بطريقة بدائية علي حجر أثري كبير.. قلب يشي بقصة حب حديثة قامت بجوار ذلك الحجر حين كان يقطن بيئته الأصلية.. وقبل أن يتحول الي أحد معروضات المتحف.. قلب  يذكرك بذلك المرسوم علي معظم معابد الأقصر.. أو علي أحجار منطقة الأهرامات المتاحة في متناول اليد ..أو حتي ذلك المرسوم ببجاحة علي رجل أسد كوبري قصر النيل ..

إتسعت إبتسامتي وأنا أتأمله بدقة..إنه قلب صغير .. يوحي أن صاحبه لم يكن ثرثاراً بالقدر الكافي .. إنه فقط لم يقاوم رغبته في تسجيل لحظة تاريخية بالنسبة له ..!

يبدو أن الانسان كائن شغوف بالتسجيل ..الأمر لا يقتصر علي شعب بعينه.. إنه يتعلق بالذات البشرية ذاتها  .. الكل يعشق تسجيل ما مر به من احداث.. الكل يحلم بتخليد ذكرياته لتحيا عمراً يتجاوز عمره القصير .. فيحاول أن يربطها بكل ما حوله من أدوات .. ليعرف من بعده إنتصاراته أو حتي إنكساره..فقط قد يختلف الأمر من شعب لآخر..!

فقد تجد شعباً ثرثاراً.. مثل قدماء المصريين .. و آخر كتوم بعض الشئ..مثل ذلك الفرنسي العاشق

والحقيقة أن ثرثرة المصريين القدامي ربما كانت هي السبب الحقيقي لتخليد حضارتهم..والتي لولاها و لولا شغفهم بتسجيل كل ما مر بهم علي جدران معابدهم و حتي علي توابيتهم لما كنا عرفنا شيئاً عنهم.. ولم لا.. وهم الذين لم يتركوا سطحاً إلا و أزحموه بالنقوش .. فكانت كل معركة ملحمة بطولة.. و كل ما صدر عن ملكهم هو عين الحكمة.. حتي وان كان قد خرج للصيد!.. كل هذا كان يسجل برموز معقدة متراصة بتناسق مرعب.. لم أجد افضل لوصفها من سخرية “شيكو” في فيلم الحرب العالمية الثالثة  ” قطة، بطة، تمساح”

و المصري الحديث قد ورث  شغف أجداده بالنقش والتسجيل.. فالحاج يسجل رحلته إلي الحجاز علي مدخل بيته مع رسم للكعبة و صورة بدائية لجمل – مع أنه سافر بالطائرة- و هو يفعلها بفخر شديد واعتزاز و كأنه أتي بما لم يأته الأوائل.. بل أنني أثق أنه لو كان يملك نقش تفاصيل رحلته علي حجر ..وباستخدام لغة فخمة معقدة مثل الهيروغليفية لكان قد فعل!

حتي الجيل الجديد من أبناء “محمد رمضان”..  مازالوا يملأون حوائط المدارس و حجارة كورنيش الروضة القديمة بقصص حبهم الفاشلة بين أحمد ومني .. فلم ينج حجر إلا من ذلك القلب الذي يخترقه السهم .. ثم حرفاً أو اثنين يحيطان به من كل جانب .. وإن كانت ثقافة صاحب النقش هي ما تحدد نوع الحروف في كل مرة..

إنه نوع من الإعلام البدائي الذي يبحث عن جمهور عشوائي سيبدي رأيه في زمان لاحق.. أو سيعرف أخباراً لا تهمه في شيء.. إنها رسالة أراد البعض أن تعيش بأي وسيلة.. وأعتقد أنه قد نجح إلي حد كبير..!

أستمر في تأمل القلب الصغير الذي يزعج المشهد التاريخي الذي تخلقه الحجارة من حولي .. و أبتسم بعد أن أوقن أن المصريين قد أثبتوا أنهم ملوك النقش علي الحجر قديماً و حديثاً.. وأن الفرنسيين لم يصلوا لمستوي يمكنهم حتي المنافسة به .. فالقلب الصغير علي حجر متحف اللوفر لا يمكن مقارنة حرفية صاحبه بحرفية نظيره الذي يفعلها يومياً علي أحجار الهرم ..  هذا إن لم يكن صاحبه يحمل جذوراً مصرية من الأساس.. أو وهكذا أعتقد!

نرشح لك- د.محمد صلاح البدري يكتب: عفوًا الطبيب لا يذهب لبيوت الدعارة!!