محمد الباز يكتب: مصير جثة قانون "بناء الكنائس"... من الأمن الوطني الى مكتب الرئيس

كان اللواء كامل الوزيري رئيس الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة يتحدث أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي فى حفل تدشين مشروع المليون ونصف مليون فدان من الفرافرة، استعرض بحماس مباني المدينة التي شيدتها القوات المسلحة للعاملين في المشروع، أشار إلى المسجد الذي يتوسطها، ثم أشار إلى الكنيسة التي أمر الرئيس ببناءها في مراحلها الأخيرة.

عرفت بعد ذلك أن الرئيس السيسي عندما اطلع على ماكيت المدينة السكنية الملحقة بالمشروع، رأى مسجدا في منتصفها، فسأل: وأين الكنيسة؟

كان هذا أمرا مباشرا ببناء كنيسة للعاملين الأقباط الذين حتما سيتواجدون للعمل في المشروع.

نرشح لك :خمس نقاط توضح اعتراضات الأقباط على قانون بناء الكنائس

مرت هذه اللقطة مرورا عابرا، لم يلتفت لها أحد، لكنها كانت بالنسبة لي ذات دلالة واضحة لا تقبل تأويلا، فالرئيس يؤمن بحرية العقيدة إيمانا عمليا، وإذا كان من حق المسلم أن يجد مسجدا ليصلي فيه، فمن حق المسيحي أن يجد بيتا لله يقيم فيه شعائره، فليس عدلا أن يقابل المسلم الله في بيته، بينما يتخفى المسيحي وهو يعبد الله الواحد الذي نؤمن به جميعا.

تدين عبد الفتاح السيسي الوسطي حرره من العقد النفسية والدينية التي حكمت علاقة رؤساء مصر السابقين بالمسيحيين.

في بداية عصر السادات، قابل البابا شنودة، واستمع منه، قال له: اطلب ما تريد، فطلب الأنبا شنودة التصريح ببناء خمسين كنيسة، فزايد السادات عليه، وقال: بل لك مائة، وحتى مات الرئيس لم يتحقق للمسيحيين شيء، وظلت كلمة السادات ” أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة” خنجرا موجها إلى ظهور المسيحيين، الذين شعروا أنهم غرباء في وطنهم.

مبارك حكمته عقدة أخرى في علاقته بالبابا شنودة، فعندما احتدمت الخلافات بين السادات والبابا في نهايات العام ١٩٨١، تم تكليف مبارك بأن يذهب إلى البابا للتفاهم وربما التفاوض، لكن الأنبا شنودة رفض مقابلته، فأسرها مبارك في نفسه، وطوال ما يقرب من ثلاثين عاما قضاها في السلطة لم يستقبل البابا بشكل خاص، بل جمعتهما مناسبات عامة، فقد رد له رفضه مقابلته، وهو ما انعكس على أزمات المسيحيين التي تزايدت في عصره، ويشهد كثيرون أن البابا كان يرغب في مقابلة مبارك، لكن الأخير لم يكن يهتم.

محمد مرسي كان كاذبا بما يكفي، ففي الوقت الذي حاول فيه أن يتودد للمسيحيين، جرت في عهده أول عملية اعتداء كاملة على الكاتدرائية المرقسية في العباسية، وكانت هذه رسالة واضحة، إما أن تلتزموا بالخط الذي نرسمه لكم، وإما ستواجهون حربا لا قبل لكم بها.

السيسي وبشكل عملي تحرر من كل ما يمكن أن يلقي بظلال سوداء على علاقته بالأقباط، زارهم أكثر من مرة في الكاتدرائية ليلة العيد، ليؤكد أنه رئيس مصري لكل المصريين، فهو لا يفرق بين مواطن وآخر على أساس دينه، الكل عنده سواء، وكان أن وعد بترميم وبناء الكنائس التي تم تخريبها على يد الإخوان بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة في ١٤ أغسطس ٢٠١٣، صحيح أن هذا الوعد تأخر تحقيقه كثيراً، لكن العمل قائم، وقد اعتذر الرئيس عن التأخير في كلمته التي وجهها إلى المسلمين قبل المسيحيين من قاعة الاحتفال بالعيد بالكاتدرائية.

هذه المقدمة وإن طالت قليلا، كانت ضرورية في سياق حديث صريح وواضح عن قانون بناء الكنائس، الذي يبدو أنه سيكون حجر الزاوية في خلافات حادة تشهدها الأيام القادمة.

منذ ثمانية شهور تقريبا، والعمل على هذا القانون يتواصل دون انقطاع، لدينا حتى الآن ١٤ مسودة منه، الدستور يلزم مجلس النواب الانتهاء منه في دور الانعقاد الاول، الكنائس الثلاث قدمت كل ما لديها، وكان القانون على وشك المناقشة في مجلس الوزراء تمهيدا لعرضه على مجلس النواب، لكن حدث ما يبدو أنه سيعطل مسيرته الطبيعية.

مساء الأربعاء الماضى جرى اجتماع خاص بين ممثلي الكنائس الثلاث ومسئولين في الدولة، كان من بينهم مسئولين في الأمن الوطنى، جرت مناقشات عديدة، في مجملها لم تكن مريحة، خلقت نوعا من القلق، وهو القلق الذي وقف وراء بيان الكنيسة الأرثوذكسية، الذي كان غامضا ومريبا، لكنه يكشف الكثير.

بعد ساعات من الاجتماع أصدرت الكنيسة الأرثوذكسية بيانا نشرته على صفحتها الرسمية، قالت فيه نصا: حضر ممثلو الكنائس المصرية اجتماعا هاما أمس الأربعاء ١٧/ ٨/ ٢٠١٦، ضم ممثلي جهات عديدة بالدولة، لمناقشة مشروع قانون بناء الكنائس المزمع إصداره، وقد فوجئت الكنيسة بتعديلات غير مقبولة وإضافات غير عملية، وتعلن أنها سوف تسبب خطرا على الوحدة الوطنية المصرية بسبب التعقيدات والمعوقات التي تحويها، وعدم مراعاة حقوق المواطنة والشعور الوطني لدى المصريين الأقباط، ومازال المشروع قيد المناقشة، ويحتاج إلى نية خالصة وحس وطني عال لأجل مستقبل مصر وسلامة وحدتها.

البيان غامض لأكثر من سبب.

أولا، عرفنا ممثلي الكنائس الذين حضروا الاجتماع الخاص، لكننا لم نعرف من هم ممثلي الدولة، كان من بينهم بالطبع ممثلين للأجهزة الأمنية، لكن بيان الكنيسة امتنع عن التصريح بذلك، ولا أدري لذلك سببا، فهل لايزال الخوف يسكن قلوب المسيحيين من التصريح بالدور الذي تريد أن تلعبه الأجهزة الأمنية في بناء الكنائس، وهو خوف ليس مبررا بالمرة، لكن ماذا نقول والطبع غالب؟

ثانيا: لم يفصح بيان الكنيسة عن التعديلات التي جرت على قانون بناء الكنائس، والتي من شأنها أن تعطل القانون وتحوله إلى قانون ظالم يكرس التمييز، ولا يمنح المسيحيين الحق الكامل في بناء دور عبادتهم التي يتقربون فيها إلى الله، دون أن يكون من حق أحد أن يتدخل أو يمنع أو يصادر حقهم الذي منحه لهم الاسلام، ويضن به المسلمون.

ثالثا: لم يحدد بيان الكنيسة كذلك المخاطر التي ستهدد الوحدة الوطنية من جراء التعديلات التي أدخلت على القانون، تركت الكلام على عواهنه، وهو ما يزيد القيل والقال، و يجعلنا نضع الكنيسة الأرثوذكسية في خانة الاتهام هي الأخرى، فإذا كان هناك من يريد إفساد القانون، فلماذا لا تقوم الكنيسة بدورها، وكشفه وفضحه أمام الرأي العام؟ على الأقل ليحمل كل طرف مسئوليته؟.

قانون بناء الكنائس الحالي به أزمات كثيرة منها فرض بناء سور حول الكنيسة، وإذا سلمنا بذلك، فلابد أن نسأل هل سيكون من حق المسيحيين الإعلان عن هوية أماكن عبادتهم؟ هل سيتمكنون من وضع صليب عليها أم لا، خاصة أن السلفيين أعلنوا رفضهم لوضع الصلبان على الكنائس من الخارج، وكأنهم يريدون أن تتحول الكنائس إلى بيوت عبادة سرية.

هناك أيضاً حصار لمباني الخدمات الاجتماعية والثقافية الملحقة بالكنيسة، ولمن لا يعلم فهذه المباني لا تقل في أهميتها لدى المسيحيين عن مباني الكنيسة نفسها، فالكنائس ليست دور للعبادة فقط، ولكنها مؤسسات مجتمعية كاملة، وكم أتمنى أن تتحول المساجد إلى مؤسسات مثل الكنائس تماما، على الأقل لتملأ الفراغ الذي خلفته التيارات الإسلامية التي كانت تستوعب فئات كبيرة من الشعب المصري، وتقدم لهم من خلالها رعاية متكاملة.

في النهاية يمكن حل كل هذه المشكلات، وأعتقد أن المناقشات حولها يمكن أن تسفر عن حلول ترضي جميع الأطراف، لكن المشكلة التي أشار لها بيان الكنيسة الأرثوذكسية من طرف خفي، هي علاقة أجهزة الأمن، وتحديدا الأمن الوطني بمسألة بناء الكنائس.

هل نأتي إلى بيت القصيد؟

ولما لا؟.. الحديث الآن عن المادة الخامسة من القانون الذي يتضمن ثماني مواد، نص هذه المادة يقول نصا: يقوم المحافظ المختص بالبت في الطلب المشار إليه في المادتين ٣ و ٤ من هذا القانون بعد التنسيق مع الجهات المعنية في مدة لا تجاوز أربعة أشهر من تاريخ تقديمه، وإخطار مقدم الطلب بكتاب مسجل موصى عليه بعلم الوصول بنتيجة فحص طلبه، وفي حالة رفض الطلب يجب أن يكون قرار الرفض مسببا.

ظاهر المادة جيد، وكانت هناك مطالبات من المسيحيين لسنوات طويلة، بأن يكون محافظ الإقليم الذي يريدون بناء كنيسة فيه هو المختص الوحيد بالتصريح ببناء كنيسة، وأن يخرج هذا الملف من أمن الدولة تماما، لمعرفة المسئولين في الكنيسة أن أمن الدولة كان يميل إلى رفض الكنائس أكثر من قبوله ذلك.

ستقول: حسنا… المشكلة تم حلها من الأساس، فالمحافظ أصبح سلطة القبول والرفض، لكن هناك مشكلتان كبيرتان.

الأولى… أن القانون لم يحدد المعايير التي على أساسها يوافق المحافظ على البناء من عدمه، وهو ما يجعل سلطته تقديرية، فلابد من معايير واضحة للقبول والرفض، حتى إذا ما لجأ المسيحيون إلى القضاء في حالة الرفض تكون هناك معايير واضحة ومحددة يتم الاحتكام لها.

الثانية أن القانون نص على أن موافقة المحافظ مرهونة بالتنسيق مع الجهات المعنية، ومن بينها بالطبع الأجهزة الأمنية وعلى رأسها الأمن الوطني، ويمكن لهذه الأجهزة أن ترفض بناء الكنيسة دون إبداء أسباب، وهو ما كان يحدث عادة، ثم يتركون المحافظ بعد ذلك يواجه الأزمة وحده، فيخترع أسبابا ما أنزل الله بها من سلطان.
ستقول وما الذي يجعل المسيحيين يخافون من تدخلات الأمن الوطني أو غيره من الأجهزة الأمنية في عملية بناء الكنائس؟ وهنا سأحدثكم عن العقد القديمة التي تحكم العلاقة بين الكنيسة والأجهزة الأمنية، ففي قرارة نفس المسيحيين قناعة بأن الأمن يرفض أكثر مما يقبل، والتاريخ بينهم طويل ومعقد، ولذلك هم يريدون قانونا طبيعيا، لا يشعرهم بالتمييز ضدهم، خاصة أننا سلخنا قانون بناء الكنائس من قانون دور العبادة الموحد الذي يضم المساجد والكنائس، وهذا وحده تمييز ديني لا يقبل به أحد، لكن هذه على أية حال قضية أخرى.

الحكومة من جانبها حاولت أن تخفف من وطأة انزعاج الكنيسة من التعديلات التي جرت على القانون، وخرج المستشار مجدي العجاتى وزير الشئون القانونية ومجلس النواب ليتحدث بطريقة إنشائية بحتة عن أنه لا مشاكل على الإطلاق، فالحكومة مستمرة في مناقشة القانون مع الأطراف المعنية ولم تنته منه بعد، ثم إن الاعتراضات والملاحظات كافة يتم بحثها من جانب الحكومة، وإن التعديلات التى أدخلت على القانون لا تهدد الوحدة الوطنية، لأن الحكومة حريصة على الوحدة الوطنية ولا تبغي سواها، وكان مهما أن يقول الوزير في تصريحات صحفية منشورة منسوبة له أن الاختلاف في الرؤى لا يفسد للود قضية، وتمنى أن يخرج القانون بالشكل الذي يرضي جميع الأطراف.

من المفروض أن نطمئن بعد كلام الوزير العجاتي، إلا أن كلامه لم يبدد مخاوف الأقباط، فقد تعودوا على هذا الكلام، وأعتقد أنهم لن يركنوا إليه، فهم يريدون فعلا وواقعا على الأرض، وليس كلاما إنشائيا، ولذلك يجب أن تجيب الحكومة على سؤال واحد، وهو: هل تريد أن يصدر القانون من الأساس أم لا؟ وإذا كانت تريد له أن يصدر، فهل ستضع مخاوف المسيحيين في اعتبارها أم لا؟

لقد أشرت إلى موقف الرئيس في الفرافرة، لأن فيه تأكيد أن بناء الكنائس لا يحتاج إلى كل هذه المعوقات التى نسوقها في طريقها، فإذا أرادت الدولة أن تبني كنيسة، فإنها تفعل ذلك على الفور، وأعتقد أن كنيسة الفرافرة لم يقف في طريقها شيء، لسبب واحد أن الرئيس طلب بناءها، فكان له ما أراد.

هل أطالب هنا بتدخل الرئيس؟

إنني أفعل ذلك طبعا، لقناعتي أن تدخله سيجعل الأمر مرضيا لجميع الأطراف، لن يتجاوز القانون، لكنه في الوقت نفسه لن يقبل بقانون فيه رائحة تمييز، تدخل الرئيس سيجعل القانون كائنا حيا، لأن النزاع حوله سيجعله مجرد جثة نتباكي عليها، فاعملوا من الآن قبل أن تصبح مهمتنا الوحيدة هي كيف وأين ندفن هذه الجثة.