د.محمد صلاح البدري يكتب: أسود وبقرص !!

تسألني إبنتي التي لم يتجاوز عمرها عشر سنوات وهي تشير بإصبعها الصغير إلي شاشة التلفاز.. حيث يعرضون أحد الأفلام التي تعود إلي ثمانينات القرن الماضي..المشهد يظهر البطل و هو يجلس علي كرسي فخم.. وأمامه مكتب عتيق الطراز.. تتناثر عليه بعض المتعلقات .. فتختار إحداها و هي تهتف في حيرة..:إيه ده يابابا؟!

أنظر إلي الشاشة الفضية .. ثم التفت إليها وأكاد أهتف مستنكراً: إنتي عمرك ما شفتي تليفون؟
ثم أتذكر أنها لم تره من قبل بالفعل!!.. ذلك الإختراع الأسود الذي يحمل قرصاً مستديراً علي واجهته المائلة.. و يحمل علي ظهره سماعة ثقيلة..!

إنه الهاتف الأول .. أو الهاتف الأوحد لفترة طويلة مرت علينا لم نكن نعرف فيها شكلاً آخر له..والأهم.. أننا لم نكن نمتلك وسيلة أخري للتواصل سواه..!

أبتسم وأنا أنظر إليها في إشفاق.. كيف سأشرح لها و هي التي تتذمر عند إنتهاء باقة الإنترنت الخاصة بها علي هاتفها المحمول.. أن ذلك الكيان الأسود كئيب المنظر هو الجد الشرعي لهاتفها ذو التفاحة المنقوصة ..

كيف سأفسر لها أن التحدث فيه كان يقتضي أن أقف بجواره في الردهة طوال المكالمة..و أنني كنت إستخدم كلمة “سامعني؟” أكثر من أي كلمة طوال فترة التحدث لأسباب تتعلق برداءة الصوت .. حتي إذا ماطالت المكالمة أخبرتني بهذا قدماي قبل أن يخبرني أحد أفراد المنزل حرصاً علي “الفاتورة”!! .. و ربما لهذا السبب تحديداً كان أبي يرفض أن يطيل السلك الخاص بالهاتف حتي لا يستحوذ عليه أحد في حجرته..!

د.محمد صلاح البدري يكتب : فاقدو الكاريزما

حتي الهاتف المنزلي الذي تعرفه هي لا يحتاج لسلك .. انه مجرد قطعة بلاستيكية صغيرة ذات شاشة مضيئة.. و تحمل أزراراً كثيرة لا أعرف وظيفة لنصفها علي الأقل!

أشعر بحنين شديد وأنا أتأمله كما لو كنت أراه لأول مرة.. فذلك الهاتف الاسود العتيق يحمل لمحة رومانسية لا تستطيع إنكارها ابداً.. كيف يمكنك أن تتخيل لبني عبدالعزيز و هي تتحدث في هيام لعبد الحليم حافظ و تهتف في رقة “صلاح” في أحد الهواتف المحمولة؟!.. لا اعتقد ان ذلك المشهد كان سيصبح مؤرخاً في السينما كمثال للرومانسية إلا بإستخدام ذلك الهاتف!

حتي الروايات القديمة.. و حبكات الأفلام التي تعتبر من كلاسيكيات السينما .. أعتقد أن معظمها كان سينهار من أول مشهد إذا إمتلك أحد الممثلين هاتفاً محمولاً.. وأبلغ البطل بالحقيقة!!

لقد كان وجود ذلك الهاتف الأسود في منزلنا مدعاة للفخر .. فلم يكن يملك أحد من جيراننا مثله ربما في الشارع كله.. كما أذكر أن التقديم للحصول عليه كان يقتضي أن تنتظر شهوراً.. و ربما أعواماً حتي تمن عليك الحكومة بأحد هذه الأجهزة..!

لن تصدقني إبنتي .. بل لا أعتقد أنها ستتفهم حين أقص لها كيف كنا ننتظر لنحظي بمكالمة لمحافظة أخري؟!.. كيف كان الإتصال يتطلب مجهوداً بل و حرفية خاصة لإدارة ذلك القرص .. مع إطالة الضغط عليه في آخر رقم حتي “تجمع” الرقم!
يخيل لي أحياناً أنها قد حرمت من تلك الأيام .. بل حرمنا نحن أيضاً..لقد كان التواصل عزيزاً صعباً.. ربما لهذا السبب كانت العلاقات أكثر قوة!!

لقد توقفت منذ فترة عن الرد علي الأرقام التي لا يظهر هاتفي المحمول إسم صاحبها .. الأمر لا يتعلق بأي نوع من الغرور أو التكبر.. و لكنني أصبحت أشعر أن الهاتف قد تحول من وسيلة “للتواصل” إلي وسيلة لإنتهاك المساحة المحدودة من الحرية الشخصية التي تمتلكها..!الأمر قد أصبح يهدد سلامي النفسي .. لذا فأكتفي بالرد علي الذين أملك أرقامهم علي هاتفي .. و فقط لأنهم يعرفون أنني أملكها!!

أنظر اليها في حنان و أنا أجيبها في هدوء : ده تليفون ياحبيبتي.. بس أيام ما كنا بنستخدمه.. مش بعد ما بقي بيستخدمنا!!

نرشح لك

[ads1]