د. محمد فياض يكتب: كل سنة وأنت طيب في حياة المواطن المصري

كل سنة وأنت طيب … يالها من جملة كلاسيكية اعتيادية تسمعها بشكل يومي في البيت وفي العمل والشارع والمواصلات وفي كل موضع وكأنها تعويذة سحرية ألقاها ساحر في قاع النيل ليشرب منها المصريين جميعاً ، جملة من المفروض ألا تسمعا سوي في المناسبات ولكن دورها التاريخي تعدي المناسبات والاحتفاليات ليصير مفتاح في الحياة اليومية المصرية ، يستيقظ الرجل صباحاً ليتوج إلي عمله ليجد زوجته واقفه متنمرة كل سنة وانت طيب يا حبيبي مش فاكر النهاردة ايه ، وطبعاً لأنه مواطن مطحون يعاني من غلوا المعيشة وفقر الحال ومرض الجسم وانشغال البال فمن الطبيعي أنه لن يتذكر ، تحزن الزوجة لأن اليوم هو ذكري لقاهم الأول في منفذ بيع اللحوم المجمدة ساعتها تولدت شرارة الحب الأول ، وعشان كده كان لازم تقوله كل سنة وأنت طيب ، يعتذر الرجل سريعاً ثم يهرول حتي يلحق بعمله ، يركب سيارته الفيات ال 128 ليفاجه سايس السيارات قائلاً له كل سنة وأنت طيب يا فندي ، تمتد يده ببعض العملات الفضية والتي ينظر إليها السايس شذراً ويتركه ليوزع الألقاب علي ملاك باقي السيارات كلاً حسب ماركة سيارته مصحوبة جميعها بالتميمة المصرية الأزلية كل سنة وأنت طيب .

يذهب صاحبنا متأخراً إلي عمله ويهرول إلي مكتب شؤون العاملين ليوقع في دفتر الحضور والانصراف ليجد الموظف المسؤول عن الدفتر مبتسماً بظفر وكأنه حصل علي جائزة الأوسكار قائلاً له كل سنة وأنت طيب الدفتر اتشال واتشطب عليك يا حلو ، يتوجه الموظف مهموماً إلي مكتبه ليجلس في المكتب المجاور لزميله الذي لا يترك فرضاً في موعده والذي أوشكت زبيبة صلاته علي التحليق من فوق جبهته ، وما إن يجلس حتي تترامي إلي أسماعه صوت زميله يقول لأحد المواطنين اتفضل يا باشا ورقك حيخلص في خمس دقايق وكل سنة وأنت طيب ثم يفتح الدرج المجاور له ليضع المواطن فيه ما تيسر له من أوراق مالية وتنقضي مصلحته في ثوان معدودات ، ثم يدخل مواطن ثاني رث الملابس ضعيف الحال أنهكته أروقة الدواوين الحكومية ، يسأل عن كيفية إتمام اجراءاته فيلقي عليه أحد الموظفين كلمة كل سنة وأنت طيب ، ولأن الرجل طيب ولم يدرك ماهية الجملة فيرد عليه باسماً وحضرتك بالصحة والسلامة دون أن تداعب يديه فتحة الدرج ، وهنا تتبدل معالم الموظف السمحة لينظر إلي الورق بإمتعاض قائلاً له كل سنة وأنت طيب بقي ورقك مش نافع .

تبدأ الدردشة بين الموظفين بعضهم البعض ينظر صديقنا الموظف من شباك مكتبه الذي يطل علي ميدان التحرير ليتذكر تلك الأيام التي كان يعشقها أيام الثورة والحلم ، اعتقد وقتها أن كل هذا البغض الذي يعيش فيه سيتغير إلي واقع أفضل وغد أجمل ، علت تنهيدة حارة من صديقنا وتحدث إلي جاره قائلاً له فاكر أيام 25 يناير فرد عليه جاره ياه انت لسه فاكر ياعم ثورة ايه كل سنة وأنت طيب ، وهنا اشتبكت معهم مدام عنايات في المناقشة رغم انشغالها التام في تقميع البامية وتفصيص الفاصولية وتخريط الجزر قطع صغيرة كفسيفساء بديعة ، ورغم انشغالها أيضاً بمكالمة تليفونية طويلة اغتنمتها من دقائق مجانية وذلك من خلال هاتفها المزنوق بين أذنها وطرحتها المعقودة علي شكل هودج جاهلي ، رغم كل هذه المسؤوليات الملقاة علي عاتق مدام عنايات إلا أن كلمة الثورة كانت كفيلة بهز كيانها وإثارة انفعالها الشديد لتقول له ثورة ايه يا أبو ثورة دي كانت أيام سودة الله لا يرجعها ، ويبدو أن مدام عنايات تتمتع بحس وطني شديد ظهر جلياً من علم مصر الذي حاولت رسمه من خلال طرحتها الحمراء وطرحتها البيضاء وصبغة الشفايف السوداء ونغمة هاتفها التي تعج بالوطنية ، وفي هذا الزخم يدخل مواطن آخر لمدام عنايات يطلب منها مراجعة أوراقه التي يسعي عليها منذ أكثر من شهر وبكل حنية تحتضن مدام عنايات الورق ثم ترده سريعاً للرجل قائلة له ورقك تمام بس تجيب الملف ده زي ما هو كده بقي بعد العيد عشان أنا واخدة ساعة رضاعة وبكرة الخميس نص يوم وبعده الجمعة والسبت أجازة ، والأحد واخدة أجازة عشر أيام مصيف وبعدها كل سنة وانت طيب أول رمضان وده شهر عبادة زي ما أنت عارف وبختم المصحف فيه 15 مرة ، وتودع الرجل بابتسامة قد تكون الأخيرة التي يراها في حياته.

أوشكت ساعات العمل علي الانتهاء ينظر صديقنا الموظف باستغراب لزميله الآخر المتصابي الذي لم يترك هاتفه المحمول منذ ساعات الصباح يتحدث بمحن شديد ومن الواضح أن المكالمة مع إحدي النساء إن لم يكن الهاتف مغلق أصلاً ، وما إن ينتهي من مكالمته حتي يقول له صديقنا أيوه بقي … ايه ياعم يا بختك يا سيدي ، يتحسس المتصابي شاربه المصبوغ بصبغة رديئة قائلاً له بزهو …خليك في حالك أنت خلاص بقي كل سنة وأنت طيب بس أنا لسه بصحتي .

تنتهي ساعات العمل ويتوجه صديقنا إلي سيارته العتيقة ولكنها كانت عصية عن الدوران حاول معها مراراً وتكراراً ولكنها أعلنت تمردها عن العمل ، استطاع بصعوبة شديدة أن يجد واحد ابن حلال يسحب له السيارة إلي ورشة مجاورة ، وبصعوبة أكبر استطاع أن يقنع الميكانيكي أن يفحص سيارته وبخيلاء شديد توجه ليري ما ألم بالسيارة وبعد تمعن نظر له نظرة عميقة لا تختلف مثلاً عن نظرة الدكتور أحمد عكاشة قائلاً له الماتور شيع ، يعني مفيش أمل لا خلاص تقدر تقول كل سنة وأنت طيب .

يتوجه صديقنا إلي منزله يعلوه الإعياء والكآبة ، وما إن يصل إلي منزله حتي تقابله زوجته مرة أخري قائلة له فين الطلبات ليرد قائلاً طلبات ايه فنتفجر في وجهه قائلة كل سنة وأنت طيب بكرة موسم وعاوزين لحمة وكسكسي ورقاق وقلقاس وخد شوية الرز دول وروح دق لنا كفتة .

يتراجع صديقنا إلي الخلف لينفذ الفرمان ولكن ما يلبث أن تتشوش الصورة في عينه ويصاب بإعياء شديد ويسقط في الشارع ، وتترامي إلي مسامعه كلمات أخيره من أحد المارين يسأل آخر هو ايه اللي حصل …فيرد قائلاً كل سنة وأنت طيب الراجل فيص .

يتوجه الجميع إلي المستشفي وتحاول الممرضة إسعاف الرجل بإخلاص فلقد أخذت لتوها إكرامية سخية من زوجته بعد أن قالت لها كل سنة وانتي طيبة ، ولكن الأقدار لم تهمل صاحبنا فصعدت روحه إلي السماء طيبة راضية مرضية ، وبعد أن يفرغ حفار القبور من دفن الرجل يتوجه لأهله طالباً اكراميته وبالفعل يحصل عليها بعد أن يردد كل سنة وأنتم طيبين خمس وستون مرة .

وفي الحقيقة فقد ارتبطت كلمة كل سنة وأنت طيب بالمصريين في أفراحهم وأتراحهم وأعيادهم وحتي في مخالفتهم للقوانين ، ومن المثير أنك تجد المصريين يتعاملون في مراحلهم التاريخية بمبدأ كل سنة وأنت طيب فحكمهم الفراعنة والفرس والروم والعرب بمختلف الدويلات طولونيين واخشيدين وفاطميين وأيوبيين ومماليك وعثمانيين ، وعندما كانت تنتهي مرحلة وتبدأ مرحلة أخري لم يكن المصري يثور ولا يتحرك بل كان يواجه الأمر بابتسامة وبكل سنة وأنت طيب ، حتى إن الفاطميين قد حاولوا بقدر الإمكان كسب المصريين إلي جانبهم فابتكروا الحفلات والأسمطة والطعام والشراب ، وأحب المصريين الفاطميين ولكن عندما سقطت دولتهم قال ابن الأثير ” ولم ينتطح فيها عنزان ” أي كل سنة وأنت طيب .

وهكذا كانت كل سنة وأنت طيب تميمة حصرية ملتصقة بالشخصية المصرية …شكراً لسعة صبرك عزيزى القارىء وكل سنة وأنت طيب .

نرشح لك

[ads1]

د.محمد فياض يكتب: ملامح التدين الموسمي في رمضان

هذا ما فعلته C.A.T في عامها الأول

إعلامية مصرية تغير اسمها!!

ايهما أفضل فيلم “كابتن مصر” ام فيلم “جحيم في الهند” ؟ اضغط هنـــا

بنر الابلكيشن