الخريطة الإعلامية.. ملامح المستقبل المُغاير

أحمد عمر

ثمة مأزق حقيقي يواجه وسائل الإعلام بكل صنوفها في الوقت الحالي، ربما يكون الأشد فتكا بها منذ “الطفرة الإعلامية” التي واكبت التطور التقني في هذه المنظومة خلال السنوات العشرين الأخيرة؛ إنها أزمة مالية بكل المقاييس، وإن تباينت الخلفيات.

وللإمساك بجذور الأزمة، ينبغي الإشارة إلى أن وسائل الإعلام واجهت العديد من المشكلات التي- كادت أو بالفعل- عصفت بعدد لا بأس به من الصحف والمحطات التلفزيونية وحتى الإذاعات. وعلى الرغم من العلاقة الوطيدة بين الإعلام كمنبر عام لطرح مختلف القضايا للنقاش والبحث، وبين السياسة التي تحرك هذه القضايا، إلا أن الأزمات المالية- وليست السياسية- تظل الأسوأ على الإطلاق.

فما أكثر الصحف التي جرى مصادرة أعداد لها، أو حتى إغلاق مقارها، إن لم يكن التنكيل بالعاملين فيها، والحال كذلك ينطبق على محطات تلفزيونية محلية أو إقليمية، لمجرد أنهم فقط “تخطوا” خطوطا توصف بأنها “حمراء”، سواء وافقوا ضمنيا في البداية ألا يتجاوزوها، أو أنهم عقدوا العزم مسبقا على قول الحقيقة دون خوف من رقيب أو توجس من تراجع إيرادات. لكن هل توقفت هذه الوسائل نتيجة مشكلات سياسية؟ الإجابة: لا.

***

ولمن لا يملك معرفة كافية بطبيعة الأوضاع داخل المؤسسات الإعلامية، فمن الضروري الإشارة إلى أن هذه المؤسسات تجني مواردها إما من عائدات الإعلانات، أو من خلال حجم المبيعات (وهذا يقتصر فقط على الصحف والمجلات المطبوعة والقنوات المشفرة)، أو عبر التمويل. وهذا المورد الأخير يأتي في حالة أن المؤسسة تتبع جهة ما تريد لهذه المؤسسة أو تلك الاستمرار، دون النظر إلى العائد المالي الذي تحققه، كما هو الحال في الصحف القومية أو محطات التلفزيون الحكومية، وكذلك المؤسسات الإعلامية التي يمولها أصحاب مصالح بعينهم، أو أجهزة سيادية في أي دولة كانت.

ولذلك لم يكن مستغربا أن تشهد خريطة الإعلام في مصر أو حتى على مستوى إقليمنا المشتعل، تغيرا واضحا؛ إذ إن هذا التغير وذلك التحول مرده إلى أزمات إعلامية ترتكز في جوهرها على الشق المالي. مثال ذلك أوضاع قناة الجزيرة القطرية، فالأزمة المالية وحدها وليس التحولات الجيوسياسية التي تجري في المنطقة، كانت الدافع وراء تسريح 500 موظف في هذه الشبكة القطرية دفعة واحدة.

قناة العربية غريمة الجزيرة التقليدية، هي الأخرى باتت تعاني من مشكلة مالية، وهو ما انعكس في اتخاذ القناة المنتمية لمجموعة قنوات “إم بي سي” السعودية، قرارا بتسريح العشرات من العاملين فيها خلال الأيام القليلة الماضية.

***

الأمر لم يختلف في عدد من الصحف والمطبوعات الخليجية، فقد شهدت منطقة الخليج خلال الأشهر الماضية منذ مطلع 2016 حالات إغلاق لصحف ومطبوعات، اضطر مالكوها لتسريح العاملين فيها وغلق النشاط، حتى المطبوعات الترفيهية، التي يفترض أن لها قارئها الخاص الذي يريد أن ينأى بنفسه عن هموم السياسية وضغوط الاقتصاد، لكن هذه هي الأخرى لم تسلم من “حُمّى التسريح” المستشرية في أوساط مؤسساتنا الإعلامية. والأمر بكل بساطة ناجم عن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها دول الخليج النفطية، مع انهيار أسعار الخام الأسود، وتحول حكومات هذه الدول إلى التقشف، ما حدا بهذه المؤسسات أن تفقد أهم مورد لها، سواء من الإعلانات الحكومية السخية التي تسقط عليها، أو التمويل.

***

وفي مصر لم تختلف الحال كثيرا. ورغم أن الصحافة والإعلام المصري بشكل عام يظل الأضخم عربيا إن لم يكن الأضخم في منطقة الشرق الأوسط برمتها، لكن الاضطرابات السياسية التي مرت بها خلال السنوات الخمس الأخيرة دفعت الكثير من وسائل الإعلام نحو هوة سحيقة من الأزمات المالية. صحف ومحطات تلفزيونية لم تدفع رواتب العاملين فيها لشهور، وقد تكرر المشهد في أكثر من وسيلة إعلامية، على مدار هذه السنوات، وكانت النتيجة أن البعض أغلق تماما، أو تم بيعها بالكامل، وصفقة “أون تي في” ليست ببعيدة عن ذلك. فالملياردير نجيب ساويرس لم يبخل- كما أعلم- على القناة، بل ظل يدفع رواتب العاملين فيها رغم الخسائر التي تتكبدها المحطة، لكنه بلغ مرحلة لم يعد قادرا معها على مواصلة التقدم، لاسيما مع غياب التطوير ورحيل مهندسها البارع ألبرت شفيق الذي أحدث تطورا نوعيا في شبكة قنوات النهار بعد الانتقال إليها.

***

الأزمة المالية في الإعلام المصري تستند في أساسها إلى الصراعات في سوق الإعلانات، خاصة إذا ما علمنا أن هذه السوق هي الأكبر في المنطقة، والتي يقدر خبراء بأن حجمها يتخطى الملياري جنيه مصري (أكثر من 220 مليون دولار) سنويا.

هذه الأزمة دفعت مجموعة قنوات “سي بي سي” وشبكة تلفزيون النهار، إلى إعلان اندماجهما تحت مظلة شركة قابضة، ما يعني أننا أمام واحد من أكبر الكيانات الإعلامية في المنطقة برمتها، فضلا عن كونها الأضخم في مصر؛ حيث باتت تمتلك أكثر من 10 محطات تلفزيونية بين عامة وإخبارية ورياضية ودراما ودينية وحتى طبخ. ورغم الحديث عن أن الخطوات الأخيرة في السوق الإعلامية لا تخلو من لعبة السياسة، إلا أن ثمة اعتبارات اقتصادية تحيط بهذه الصفقات، منها على الأقل مواجهة المنافسة الخليجية على السوق الإعلانية في مصر.

لا يساورني شك أن الإعلام المصري مقبل على تحول شبه جذري، سواء من حيث المحتوى ومقدار الوجبات السياسية منه، أو من حيث الإدارة الرشيدة التي تسعى لعمل مؤسسي حقيقي.