عمرو الشوبكي يكتب: أين «إعلام العار»؟

يدهشك البعض حين يحدثك عن إعلام العار، ويبدأ من الصباح إلى المساء في سب الإعلاميين وكيل الاتهامات لهم، باعتبارهم يحرضون الناس ويؤلبون الرأي العام ضد الدولة والرئيس، دون أن يسأل نفسه مرة واحدة أين هو بالضبط هذا «الإعلام العار» إذا سلمنا بصحة هذا اللفظ في بلد يرغب في أن يكون طبيعيا (ولا نقول حتى ديمقراطيا أو متقدما) فلا يمكن أن يعيش دون إعلام حر أو فيه حد أدنى من الحرية والمهنية على السواء.

والسؤال في الحقيقة: أين هو هذا الإعلام العار الذي فلقنا به البعض وتحدث عنه يوميا ونسي أو تناسى أن هذا الإعلام هو الابن الوفي للنظام الحالى الذي يؤيدونه ويدافعون عنه في مواجهة «إعلام العار» في مفارقة تبدو صادمة.

والحقيقة أن مشكلة البعض مع هذا النوع من الإعلام هي مشكلة وعي وتجهيل إذا افترضنا حسن النية، في بلد مأزوم اقتصاديا وفيه انهيار في التعليم، فيصبح التلقين وغسيل المخ قادرا على تشكيل «لا وعي» عند الكثيرين ويجعلهم عاجزين عن التفكير السوي.

أين إذن إعلام العار؟، الحقيقة أن إعلام العار هو هذه النوعية من الإعلاميين المؤيدين لأي نظام سياسي وهم المحصنون من أي حكم قضائي ويسافرون مع الرئيس في كل مكان، وهم أيضا هؤلاء الإعلاميون الذين سُمح لهم بتقديم برامج تكررت فيها جرائم جنائية مكتملة الأركان دون حسيب أو رقيب مهني وليس أمنيا، فتلصصوا على هواتف الضيوف وأهانوا الشعب السوري الشقيق والعظيم رغم نكبته لكي يقولوا تحيا مصر، تماما مثلما أهان «رفاقهم» من نفس المدرسة أشقاءنا المغاربة، وهناك أيضا من نفس الفرقة من اتهم أبرياء بتهم تتعلق بالشرف وأذاعوها على الهواء مباشرة باعتبارها نصرا إعلاميا وأدانهم القضاء على جريمتهم الشنعاء.

هل إعلامي البط الذى تُرك لسنوات تحت الطلب يصول ويجول ليُخون ويسب مصر كلها دون أي حساب وحين خرج عن الخطوط الحمراء ليس بسبب استبحاته للناس إنما لأنه مسّ أسماء ومؤسسات محصنة فأطيح به بقسوة دون أن يسأل المؤيدون المغيبون لماذا استبعد؟ ومن كان يحركه؟ وأي إعلام كان يمثل؟

ليس صدفة أن كل هؤلاء من «إعلاميى العار» هم من أشد المؤيدين والمطبلين للنظام الحالي، ولم تكلمهم الدولة مرة واحدة في قواعد مهنية من أي نوع، لأنها ببساطة لا تريدها ولم تساهم في وضعها على مدار أكثر من عام حين كانت سلطة التشريع في يد الرئيس، لأن المطلوب أذرع إعلامية تطلق على المعارضين والمخالفين في الرأى بأوامر عليا وتشغل الناس بتوافه الأمور وليس إعلاما مهنيا حرا تحكمه قواعد وقوانين ومؤسسات.

المدهش أن كل من يحدثونك عن إعلام العار من المؤيدين، ويشتكون من إعلام صنعه النظام الذي يؤيدونه، فهل هم بذلك يرفضون عن جهل الذراع الإعلامية ويؤيدون الجسم الذى صنعها (أي النظام) في تناقض غريب من الصعب فهمه؟

يقيناً هذه النوعية من المؤيدين المغيبين أبعد ما يكونون عن ثقافة الصحافة المكتوبة، ولا علاقة لهم- لا سمح الله- بقراءة الكتب ولا مقالات الرأي، ولم يسمعوا عن شيء اسمه مراكز الأبحاث ولا أي شيء له علاقة بالعلم والتنوير والتقدم، فهم يقينا نتاج الضحالة الفكرية والتجهيل غير المسبوق الذي جعلهم لا يميزون بين نقابة الصحافة والصحفيين، وبين من وصفوهم بإعلاميي العار وكانوا المصدر شبه الوحيد الذي استقوا منه «معلوماتهم» المجهلة وهلاوسهم التي وضعوها فى ثوب آراء.

أفهم تماما أن يختلف عقلاء المؤيدين (الناس الطبيعيون) مع توجهات بعض الصحفيين ومع توجهات بعض أعضاء مجلس نقابة الصحفيين لأن هؤلاء يعرفون معنى توجه سياسي، والفارق بين الثوري والإصلاحي، والإخواني والمتدين وغيرها من البديهيات، أما الآخرون فهم في الحقيقة نتاج الضحالة وحملات التجهيل المنظم التي صارت «كورس مكثف» على مدار عامين.

في كل بلاد العالم المتقدم والمحترم (كما كنا في بعض فتراتنا السابقة حين كنا نحترم العقل رغم غياب الديمقراطية) تُناقش الناس ما تقوله الصحف الكبرى (وليس الإعلاميين الكبار أو الصغار)، مثل الـ واشنطن بوست أو نيويورك تايمز في أمريكا، أو اللوموند في فرنسا أو الجارديان في بريطانيا أو الباييس في إسبانيا، وغيرها من كبريات الصحف في العالم، وليس ما يقوله الإعلامي س أو ص مهما علا شأنه، فالقضايا الكبرى تصنعها الصحافة والتأثير في النخبة وصانع القرار تفعله الصحافة ومراكز الأبحاث إلا عندنا، فالحمد لله الأولى محاصرة من قبل الداخلية، والثانية لا يستمع لها أصلا أي صانع قرار.

ففواصل السب والقذف التي تحولت إلى حديث المدينة بدلا من النقاش العام حول قضايا تهم الناس، هي كلها أمور صنعتها أو شجعتها أو تواطأت معها أجهزة الحكم، ومع ذلك أصر أصحاب العقول الممسوحة أن يفصلوها عن مصدرها الذي نمت وترعرعت فيه.

فى مصر لا توجد قواعد مهنية تحكم عمل الإعلام مثلما لا توجد قواعد مهنية تحكم عمل الشرطة ولا المحاماة ولا الأطباء وقد يكون حال الإعلام أسوأ نتيجة للوضعية السياسية، فكل واحد يسير تقريبا حسب مزاجه أو سلوكه الشخصي وما رباه عليه أهله، أما دولة القانون التي قرأنا عنها في الكتب فللأسف مؤجل الحديث عنها في مصر.

قصة إعلام العار هي قصة وهمية مختلقة رددتها المواقع إياها التي تؤكد كل يوم لبعض البسطاء أن هناك مؤامرة كونية على مصر المأزومة العاجزة عن التحالف (بقواعد وبندية) أو معارضة (بقواعد أيضا مثلما فعلنا في الماضى) الغرب، وتركنا الناس تسقط في نظريات ما قبل استخدام العقل وما قبل الحفاظ على الفطرة البشرية حتى صار حديث البعض في ذاته أمة ضحكت من جهلها الأمم.

نقلًا عن جريدة “المصري اليوم”