عمرو شوقي يكتب: مذكرات صحفي ممسوح بيه بلاط صاحبة الجلالة (6)

وختامها ديسك (2) – عيون طه حسين

 

ولكن، هل يمكن أن يأتي زمن يكون فيه الصحفي بفنون الكتابة على دراية كاملة، وبأصول الصحافة على معرفة شاملة، فتنتفي الحاجة إلى مهنة الديسك؟

ختمت الحلقة الماضية بهذا السؤال، وقلت إنه “قد تشهد الحلقة القادمة الإجابة”، والحمد لله أني قلت “قد”، فكما تعلم هي أداة “شك” حين يليها فعل مضارع..

وجدت صعوبة في الإجابة، ربما لأني أقل من أن أجيب على هذا السؤال، وربما لأن السؤال أصعب من أن يُجاب عليه! وحين غُلب حماري قلت: فلألق نظرة على الخارج.

يقولون إنه في البلاد المتقدمة لا توجد مهنة “ديسك”، أما في البلاد التي تبدو متقدمة بفعل النفط بينما هي في الحقيقة متخلفة، تشتد الحاجة لتلك المهنة. إذن الأمر مرتبط بتقدم الدولة من عدمه، وفي رأيي منبع هذا الارتباط أن تقدم الدولة يحسّن بالضرورة حال التعليم، ويقلل من انتشار المحسوبية في المؤسسات، و”تدهور التعليم” و”انتشار المحسوبية” أهم العوامل التي تُبرِز الحاجة الصحفية إلى “الديسك”.

“قد” تكون هذه هي الإجابة، لكن الأمر يحتاج إلى شرح.. فلتصمد معي.

في الماضي القريب كان الديسك لا يقل عمره عن 50 عامًا، أي يختم حياته على “الديسك” بعد سنوات من البحث عن المتاعب. الآن أي صحفي شاب بيفك الخط بلا أخطاء جسيمة، يجدون له مكانًا في قسم “الديسك” لأن أمثاله نادرون! وذلك بالتأكيد يرجع إلى تدهور التعليم بشدة في أعقاب الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، كما يبين الدكتور عبد العظيم أنيس في كتابه “التعليم في زمن الانفتاح”.

أما في الماضي البعيد، فلم نسمع عن مهنة الديسك، فقط كان هناك “مصحح لغوي”، بل نسمع عن رؤساء تحرير كانوا يراجعون الأخبار “لغويًا” بأنفسهم، ها هو الصحفي والشاعر إبراهيم عبد القادر المازني، رئيس تحرير جريدة “السياسة” في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، يراجع أخبار المحررين بنفسه! بل اكتشف ذات مرة 7 أخطاء لغوية في خبر واحد، فعلى طول ودون تفكير اتخذ قرارًا بفصل المحرر! لو كان المازني حاضرًا في أيامنا تلك لقطع عيش 99.9% من المحررين. أما من هُم على نفس مقعد المازني الآن، فلو وجدوا صحفيًا لم يرتكب في خبر واحد سوى 7 أخطاء فقط.. لعينوه فورًا صحفي ديسك قد الدنيا!

والمازني ليس الوحيد في مضمار رؤساء التحرير الذين يراجعون الشغل بنفسهم، وكلمة كلمة، فابن المنصورة الشهير محمد التابعي -أو “أمير الصحافة” كما لقبوه- أيضًا كان يراجع، ويراجع من؟ يراجع محمد حسنين هيكل!

تكشف ذلك الحكاية التي حكاها هيكل شخصيًا: “أذكر أنني كنت نائبًا لرئيس تحرير آخر ساعة في وقت كان يرأس التابعي تحريرها‏,‏ وسافر وقتها إلي تركيا لقضاء فترة الصيف‏..‏ وأرسل لي تلغرافا قال فيه‏:‏ إذا كان المجمع اللغوي في القاهرة قد انتهز عدم وجودي في مصر وأصدر تعليماته بتغيير قواعد اللغة العربية فلا مانع مما نشرته في صفحة‏ (كذة‏)‏ في موضوع (كذة) في السطر ‏(‏كذة)‏ لتنصب‏ الفاعل‏ وترفع‏ المفعول به‏!‏”.

هكذا كان للخطأ اللغوي وقتها شنة ورنة، ولم تهبط هيبة اللغة سوى بهبوط مستوى التعليم.

وإن كانت المؤسسات الصحفية لا تملك إصلاح التعليم، ففي أيديها التخلص من المحسوبية، والمحسوبية -لمن لا يعرفها- كائن طُفيلي يتعذى على المؤسسات الصحفية! لو تخلصنا من هذا الكائن سنرتاح ممَن يتسلقون المناصب مِن معدومي الموهبة والدراسة والثقافة والكياسة. أتذكر مرة عملت فيها بمؤسسة شهيرة تحت رئيس “شيفت” خريج معهد البريد! وليته كان يملك الموهبة! لم أفهم سبب وجوده في هذا المنصب إلا عندما علمت بأن سكرتير التحرير.. شقيقه.

تريد أن تعرف ما تفعله المحسوبية حين تقترن بمهنة يُشترط فيها الموهبة كالصحافة؟

اسمع حكاية أخيرة عما حدث مع كامل الشناوي، ثاني “أظرف” مصري في التاريخ بعد عبد الله النديم “هذه أيضًا ليست مبالغة” (راجع الحلقة السابقة).

في أول حياته الصحفية عمل مصححًا لغويًا في جريدة كوكب الشرق، بينما كان سكرتير التحرير رجل من أعيان الريف عُين في هذا المنصب لصلاته بالقائمين على الصحيفة. وزار مصر ملك الأفغان، وأخذ يتنقل بصحبة ملك مصر، وبالطبع ستغطي الصحف تنقلاتهما، وبالطبع أيضًا ستتكرر جملة “صاحبا الجلالة” و”صاحبَي الجلالة” في كل الأخبار، لكن سكرتير التحرير لم يرق له هذا التنوع، فكان يعدل أخبار الصحفيين فيجعلها كلها “صاحبا الجلالة” أو كلها “صاحبَي الجلالة” بغض النظر عن موقع الكلمة الأولى من الإعراب! فهو لا يعرف الطور من الطحين والطين من العجين. لكن كانت الأخبار تصل إلى كامل الشناوي، فيصححها وفقًا للإعراب، فيجعل بعضها “صاحبا” والآخر “صاحبَي”.

عندما رأى سكرتير التحرير تعديلات كامل عليه، ذهب إليه منفعلًا، وصرخ: “إنت هتلعب معايا استغماية؟ كل أما أكتبها (صاحبا) تخليها (صاحبَي)، وأما أكتبها (صاحبَي) تخليها (صاحبا)؟”!

كتم الشناوي ضحكاته، وقرر أن يوقع سكرتير التحرير –الذي آخره يشتغل سكرتير فقط بلا تحرير- في شر أعماله، فأخذه وطلع على رئيس القسم السياسي في “كوكب الشرق”. اللي هو مين؟ الدكتور طه حسين.

بظرفه الآسر وذهنه الحاضر، أخذ كامل يشرح لعميد الأدب العربي ما جرى من سكريتير التحرير، فلم يتمالك طه حسين نفسه وتخلى عن وقاره وأخذ يضحك ويكركر!

لا أعلم ما فعله وقتها الدكتور طه مع سكرتير التحرير، لكن أعلم أنه أيقن أن هذا الحكّاء الظريف موهبة فذة لا تُضيَّع، وبدأ بعدها يُقرِّب كاملًا منه، ليبدأ الأخير رحلة نبوغه في بلاط صاحبة الجلالة. هذا عندما كان في الصحافة عيون تلتقط الموهوبين، حتى لو كانت تلك العيون هي “عيون” طه حسين!

للتواصل مع الكاتب عبر “فيسبوك”

للتواصل مع الكاتب عبر “تويتر”

اقرأ أيضًا:

عمرو شوقي يكتب: مذكرات صحفي ممسوح بيه بلاط صاحبة الجلالة (5)

عمرو شوقي يكتب: مذكرات صحفي ممسوح بيه بلاط صاحبة الجلالة (4) 

عمرو شوقي يكتب: مذكرات صحفي ممسوح بيه بلاط صاحبة الجلالة (3)

عمرو شوقي يكتب: مذكرات صحفي ممسوح بيه بلاط صاحبة الجلالة (2)

عمرو شوقي يكتب : مذكرات صحفي ممسوح بيه بلاط صاحبة الجلالة (1)

.

تابعونا علي الفيس بوك من هنا

تابعونا علي تويتر من هنا