البط الأسود: دليل التعامل مع قضية الإلحاد

كريم الدجوي – نقلا عن “مجلة 7 أيام”

أظن أن أصعب شيء في تحرير موضوع عن الإلحاد والملحدين في الفترة الحالية، أن تجذب القارئ دون اللجوء إلى المساحة الصفراء في التناول، دون أن تتبع النهج الذي اتبعه طوني خليفة وريهام سعيد ومعتز الدمرداش في تناولهم للقضية، دون شهادات من أهالي حي الفلكي عن “العلاقات الجنسية الكاملة” و”غرف النوم الجماعي” داخل قهوة الملحدين التي أغلقت منذ أيام. لقد صار تحديا أن تتعامل مع قضية يتعامل معها الإعلاميون على إنها “لقطة” لتملأ الفراغ الذي سببته انحصار الأطراف السياسية التي غزت الشاشات لأربعة أعوام.

كريم الدجوي
كريم الدجوي

في البداية، علينا أن نتفق على عدة أشياء، أولا أن نكون حياديين قدر الإمكان في تعاملنا مع تلك القضية الشائكة؛ فلا فائدة من تصيد أخطاء وتحقيق انتصارات زائفة، إذا كنا فعلا نريد أن نخرج من هذا التحليل بشيء مفيد. وثانيا أن مناقشة الإلحاد والملحدين ليست بالضرورة تضع دينك وعقيدتك في موقع الخصم أو المناظر، فسردنا لبعض الحقائق ووجهات النظر لا تعني اتفاقنا أو اختلافنا معها، بقدر ما تعني إنها لأناس في مجتمعنا علينا أن نعيش معهم في سلام، دون أن يكون اختلافنا سببا لتأخر الوطن. أما أخر شيء نتفق عليه، هو إن الإلحاد مثل أى معتقد، بعض من يتبعه متطرف في اعتقاده وفي التعبير عن وجهة نظره، ومعادي للمعتقادات الأخرى، والبعض الأخر عقلاني يحترم ويتفهم معتقادات الأخرين.. فلا حاجة للتعميم في توصيفهم، وإن كان أغلب المسلمين يرفضون أن يضعوا في خانة واحدة مع داعش وأخواتها، فمن العدل ألا نضع جميع الملحدين في نفس القالب.

من هم؟ أين هم؟ كم يكون عددهم؟
ربما تكون هذه الأسئلة هي أول من يخطر ببالك، لكن لكي نكون صرحاء، ففي ظل قانون ودستور لا يعترفون سوى بالديانات السماوية، ولا يتم الإعلان فيه عن نسبة المسيحيين أمام المسلمين، من المستحيل أن نقدم إجابات دقيقة لتلك الأسئلة. ولكن يمكنك من خلال البحث على موقع يوتيوب أن تشاهد عشرات الملحدين المصريين والعرب يتحدثون عن تجربتهم من خلال برنامج بدائي على يوتيوب بعنوان “البط الأسود”، لشاب مصري ملحد يدعي إسماعيل محمد، ظهر في حلقة قدمتها المذيعة “ريهام السهلي” منذ أكثر من عام، أثارت جدلا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب أسلوب ريهام العنيف الذي لم يترك للشاب مساحة للرد أو المناقشة أو طرح أي شىء. وبعيدا عن محتوى حلقات “البط الأسود” الصادم لغير المعتادين على زيارة هذه المساحة على شبكة الإنترنت، ستجد إن معظم الشباب الذين يرون تجاربهم خلال البط الأسود شباب جامعي، يتمتع على الأقل بقدر بسيط من الثقافة مقارنة بجموع الشعب. ستلاحظ أنهم لا يأتون من طبقة أو مستوى اجتماعي واحد، بل يعبرون عن شرائح متعددة، كما ستلاحظ أيضا إن أسباب تركهم للأديان متعددة، وإن بعضهم –وخاصة الفتايات- يضعون ما يخفي وجوههم حتى لا يتعرف عليهم أحد أو لا يسببوا حرجا لأسرهم.
أما عن أعدادهم، فبالرغم من إننا لا نمتلك أرقام، لكن من المؤكد إن عددهم يتجاوز حصر مرصد الأوقاف للملحدين بـ866 فقط، فمشاهير الملحدين على موقع فيسبوك يحصلون على لايكات أضعاف مضعفة لهذا الرقم الهزيل. ربما لا يصل الأمر لإن “في كل بيت ملحد، الملحدين بالملايين” كما قال أحمد حرقان ضمن أحد اللقاءات التلفزيونية، لكن بجولة سريعة عبر فيديوهات يوتيوب المتعلقة بالإحاد، والمرور على حروب التعليقات والنقاشات حول كل مقطع، ستتأكد إن العدد يجلهم على أقل تقدير في موضع الأقلية. أحمد حرقان وهو صديق إسماعيل محمد، وقد ظهر بعدة برامج يعلن عن إلحاده ورفضه للأديان (منها على سبيل المثال برنامج طوني خليفة، ومعتز الدمرداش، وإيمان أبو طالب وغيرها)، وأكثر ما يجذب وسائل الإعلام لمتابعته إنه أتى من خلفية دينية، حافظ للقرآن، دارسا للدين، ذو مرجعية سلفية، تتلمذ على يد الشيخ ياسر برهامي، ثم قرر ترك الدين والتبرأ مما درسه من علوم شرعية، وألتحق بالجامعة المفتوحة وامتهن النقاشة. ظهر أحمد بعدة برامج أعلن بها إلحاده، وتناظر مع عدة مشايخ وعلماء دين، الأمر الذي زاد من نسب المشاهدة لكنه لم يكسب الدين أي شىء.

هل هم أقسام؟ أنواع؟ فرق؟

كما تتقسم الأديان إلى مذاهب وشيع، فمن لا يؤمنون أيضا ينقسمون إلى عدة اتجاهات. فهناك الملحد، غير المؤمن بوجود الإله، وبالتالي غير مؤمن بالأديان. وهناك اللاديني، وهو المؤمن بوجود الإله (وقد يختلفون في تصورهم للإله أو القوة العظمى)، لكنه لا يعترف بالأديان والرسل والكتب السموية. وهناك اللاأدري، وهو من لا يستطيع الجزم بوجود الإله من عدمه، أو صحة نزول الأديان والرسالات، لكنه في الأغلب لا يعطي لتلك المواضيع حيزا كبير في حياته. ربما توجد أنواع وتشعيبات أخرى لم تصل إلى سمعي أو لم تلاقي انتشارا كبيرا، مثل “التحليق فوق الدين” تلك الحالة التي ابتدعها الكاتب والمدون “أسامة درة”، وهو إخواني سابق له عدة كتب أشهرها “من داخل الإخوان أتكلم” الذي أثار جدلا كبير. أسامة ترك الجماعة، لكنه لم يترك الإسلام في البداية، وكان يحل كضيف في بعض البرامج الدينية بصحبة خيري رمضان والحبيب علي الجفري ليقدم أراء تعبر عن فكر إسلامي وسطي مستنير، قبل أن يعلن عدم قدرته على الاستمرار كمسلم، من خلال سلسلة تدوينات بعنوان “التحليق فوق الدين” أثارت جدلا كبير، وجعلت كبار العلماء مثل الشيخ الدكتور أسامة الأزهري يردون عليها، حيث أعلن أسامة عن عدم اقتناعه بالإسلام، لكنه نيته الحفاظ على الفروض والعبادات التي تعود عليها ويستمتع بها.

لماذا يتركون الدين؟

سؤال بديهي يخطر ببال العديد منا عند ذكر كلمة الإلحاد، وتأتي معه الإجابة البديهية أيضا، هربًا من تعاليم الأديان الشاقة، ورغبة في حريات غير مشروطة، وممارسات مرفوضة دينيا، إلى أخره من ملذات محرمة يحرمها الدين. وبالرغم من من إن الإجابة قد تبدو ساذجة ومستفزة لكثير من أصحاب ذلك الفكر، ولكن لاتباع الحيادية التي اتفقنا عليها منذ بداية التناول، فإن قطاع من غير المؤمنين بالأديان كانت مساحة الحرية غير المشروطة والهروب من التشدد الديني هي الدافع لخروجهم عن الملة. بالإضافة لأصحاب الميول المثلية الذين لا يجدون تحت مظلة الدين مكانا لهم، وقد يدفعم نظرته لهم إلى رفضه كما يرفضهم.

لكن بالتأكيد أيضا أن القطاع الأكبر من الملحدين وغير المؤمنين لديهم أسباب أكثر قوة وتعقديا، أبرز تلك الأسباب وأكثرها شيوعا هو ما يروه من تعارض بين الأديان السماوية والعلم. يمكن تلخيص ذلك التعارض من وجهة نظرهم في نقطتين هم نشأة الكون وخلق الإنسان، فبعد ما وصل له العلم الحديث من بحث في هذا المجالين، وتطور علم الكون وعلم التطور وتجاوز نقطة داروين الأولى بقدر كبير مثبت بالأدلة والبراهين، صار لوجهة النظر تلك ثقلا أكبر جعل الكنيسة الكاثولوكية تغير من موقفها تجاه “نظرية التطور” لتحتوى ذلك الصدام العنيف.

وبالرغم من إن سر الخلية الأولى – التي تدعي النظرية أنها قادرة على إنتاج كل صور الحياة الموجودة حاليا – لم يكتشفه العلم بعد، إلا أن جمود الخطاب الديني وعدم احتوائه لتلك النظريات بالصورة المثلي يساهم بشكل كبير في رواج تلك الأفكار. يكفي أن تستمع لردور الشيوخ وعلماء الأزهر حول تلك النظريات لتدرك حقيقة المشكلة، فمنهم من يدعي أنها ضحدت وثبت عدم صحتها وهو أمر غير صحيح بالمرة، ومنهم من يرد مستخدما أمثلة وألغاز عمرها آلاف السنين تعتمد على الحجة المنطقية (أشهرها قصة مناظرة الإمام أبو حنيفة مع الملحدين)، ومنهم من يعتمد في ردوده على الكتاب والسنة، لتشعر أن هؤلاء العلماء والمشايخ في حاجة لآلة زمن تحضرهم من عصر الكتاب إلى عصر الإنترنت والمعرفة.

هناك أيضا من اتخذوا القرار بترك الدين بسبب اتهامهم له بالطرف، مروجين أن “الوسطية” وهم، مستندين على بعض الرويات والمواقف التي يروا فيها دعوات للعنف أو اضطهاد للمرأة وأصحاب الديانات الأخرى، ورفضن الأديان لحرية الاعتقاد. ويدعم هؤلاء وجهات نظرهم بتصرفات الجماعات المتطرفة ابتداء من الإخوان وحتى داعش وبوكو حرام، وبحتواء بعضا من الكتب الأزهرية لتلك النصوص. وفي حقيقة الأمر، إن كثيرا من النصوص الدينية إن لم يمتلك المطلع عليها قدرا من دراسة كيفية التعامل مع العلوم الشرعية بطريقة علمية، يستطيع أن يقع في ذلك الفخ بمنتهى السهولة، الأمر الذي يجعل من تقنين الفتاوى والخطابة من المؤسسات الدينية أمرا حتمية لمواجهة الأفكار الإلحادية والتكفيرية على حد سواء.

كيف يتعامل المجتمع مع الملحدين؟

في أغلب الأحيان، لا يفصح الملحد وغير المؤمن عن معتقادته بسهولة، سواء خوفا من التعرض للمساءلة القانونية من خلال قوانين إزدراء الأديان، أو من عدم تقبل أسرته ومن حوله لذلك، وما قد يتبعه ذلك من تأثير على حياته المهنية والاجتماعية. ومع رصد بعض القصص من تجارب الملحدين مع مجتماعتهم عبر شبكة الإنترنت، ستجد إن قدرتنا على استيعاب واحتواء الإلحاد أسوأ بكثير من قدرتنا على التعامل مع الإدمان على سبيل المثال. عشرات القصص عن شباب تعرضوا للضرب والتهديد من أسرهم –خاصة الأقل سنا، وقصص لفتايات تم إرسالهن إلى المصحات النفسيا بسبب مصارحتهن لأسرهن بمعتقداتهن. حتى أحمد حرقان الذي تناولنا قصته سابقا، تعرض لاعتداء من سكان حيه بعد حلقته مع طوني خليفة، محاولين أن يطبقوا عليه حد الردة بأنفسهم، وعندما هرب برفقة زوجته الحامل ليستنجد بقسم الشرطة الذي يبعد عشرات الأمتار من منزله، احتجزته الشرطة وقام رجال الأمن بضربه هو وزوجته بدلا من توفير الحماية لهم. إن مجتمعنا بكل صراحة غير مستعد للتعامل مع الملحدين، ولا يعرف أولى الخطوات المطلوبة لاحتوائهم.

كيف يجب أن يواجه الإلحاد؟

قبل أن نتطرق لاقتراحاتي المتواضعة لمواجهة ذلك الفكر، يجب أن ندرك البداية إن الإلحاد ليس ظاهرة هامشية مثل عبدة الشيطان يمكن القضاء عليها من خلال الأمن وشيطنة أصحاب الفكرة لعدة أسباب، أهمها إن الإلحاد ظاهرة عالمية في انتشار كبير، مبنية على أفكار عمرها مئات وربما آلاف السنين، وليست تقليعة أو موضة ستذهب إلى حالها. لكننا نستطيع على الناحية الأخرى، أن نقوم بإيقاف امتدادها بهذا المعدل إلى مجتماعتنا، وهو أمر يتطلب مجهود وإيمان وتفاني.

ينقسم اقتراحي إلى شقين، الأول للقائمين على الدولة ومؤسساتها الدينية والعلمية، ورجال الدين والإعلام، والذين يجب عليهم أن يدركوا الفجوة التي وقعت بين خطابنا الديني، وبين مفردات العلم الحديث. علينا تقليص تلك الفجوة –دون المساس بعقائدنا بكل تأكيد- باستخدام عقول مستنيرة من رجال الدين والعلماء في كافة التخصصات للخروج بخطاب يناسب العصر ويستطيع الصمود بل والانتصار على تلك الأفكار. (يمكنك البحث عن لقاءات د. رنا دجاني استاذ العلوم الحياتية بالجامعة الهاشمية بالأردن لفهم صورة أوضح لما أقول). كما يتزامن مع ذلك تقنين وتنظيم لمن يسمح له بالحديث باسم المؤسسات الدينية، حتى لا يتحمل الدين والمؤسسات أخطاء أفراد غير مؤهلين للحديث باسمه. وعلى وسائل الإعلام أن تترفع قليلا عن المكاسب من وراء تلك القضية الخطيرة، والتعامل معها بالجدية المطلوبة، ولكم في برنامج الحبيب علي الجفري “لحظة سكون” مثال عظيم للتجارب التي تستحق أن تتكرر.

أما الشق الثاني، فهو على مستوى الأفراد والأسر، فعليهم من وجهة نظري احتواء الملحدين وغير المؤمنين، وعدم التعامل معهم باستخفاف، وعدم دفعهم بعيدا عن الدين من خلال ردود الأفعال القاسية. واختتم كلامي للجميع بقول الإمام الغزالي: “إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم”.

 

إقرأ ايضا

كريم الدجوي: كافيتريا الملحدين

كريم الدجوي: منى عراقي.. وزود على الأوردر إيدز!!‬‎

كريم الدجوي: معادلة إعلام ما بعد يناير

كريم الدجوي: افتح القوس وزود المرحوم

تابعونا عبر تويتر من هنا

تابعونا عبر الفيس بوك من هنا