شريف عامر يكتب: خمس سنوات مع الأستاذ

نقلاً عن الشروق

سنقرأ عن الأستاذ هيكل حروفا وسطورا نسلمها لأجيال من القراء من بعدنا

لم يقترب من هيكل و لم يبتعد عنه أحد الا بقرار منه شخصيا.. تحدث مع الجميع بقدر حدده هو

لقاؤنا قائم وممتد وسطورك وأفكارك تحيط بى وبالقادمين من بعدى.. سنناقشها ونشتبك معها لكنها ستبقى نموذج يعلم وقيمة تهدى وتثمر

فى شهر فبراير ٢٠١١، استقبلت مكالمة من الاستاذ عبدالله السناوى يخبرنى بأن «الأستاذ» طلب رقم تليفونى وسيكلمنى خلال دقائق. لم أتوقعها دقائق فعلا، لكنى استقبلت صوتا قرأت مفرداته وكلماته كثيرا قبل ان أسمعه مباشرة يقول: «مساء الخير يا أستاذ»!

كان ردى متسرعا ويبدو خارج سياق اعتاده، فجاءت ضحكة بسيطة تبوح بدهشته لكلامى: «ممكن بشويش شوية حضرتك؟ ما هو مش حضرتك تطلبنى، وكمان تقولى يا أستاذ!؟ على مهلك شوية».

من هذه اللحظة، وحتى أيام قليلة مضت اصبح لى صديق اسمه محمد حسنين هيكل. بطبيعة الزمن، لم تكن صداقة فى إطار تقليدى أو منطقى. فبعد طلب موعد أول، أصبح اللقاء اسبوعيا وأحيانا أكثر بغض النظر عن المكان. من الجيزة، إلى ريفها فى برقاش، إلى شاطئ المتوسط أو الاحمر، أو حتى العاصمة البريطانية.

وشاء القدر أن كنت آخر من التقاه خارج دائرة الاسرة، بطلب منى وكرم منه وسط محنة المرض الأخير، فكان آخر ما دار بعد حديث قصير فى الشأن العام، وقبل انصرافه النهائى البات، أن سألت: «ح اشوفك امتى بالظبط الأسبوع اللى جاى»؟ كان السؤال منى عادة فى ختام اللقاء (باستثناء كلمة بالظبط)، ألقيته عليه وندمت. عكس كل تفاصيل حياته كما رأيتها. أجابنى بصوت واهن وذهن لم تخف حدته حتى اللحظة الاخيرة: «مش عارف» ــ أول مرة أسمع هذا الرد منه!

ولم أسمع منه ثانية إلا رسالة غمرتنى حملها لى الابن الدكتور أحمد هيكل قيل الرحيل بأيام قليلة.

ما بين اللحظتين، سنوات خمس، سبقها لى سنوات بناء، عمل وانتقال، سفر وعودة، حتى وصلنا جميعا للترقب والثورة، فأتم عامى الأربعين فى يناير ٢٠١١، جالسا ساعات قياسية امام الكاميرا لأنقل للمشاهد صور ميادين التحرير وهى تعلن أن عصرا جديدا يبدأ بتاريخ ٢٥ يناير ٢٠١١.

وأحاول مع من أنقل لهم المعلومة أن أفهمها وأستوعبها فى حيرة غير مسبوقة لنا جميعا.

«حافظ على مسافة مع أستاذ هيكل. خذ المعلومة وتجنب الانجذاب. هو الأستاذ الأهم لكن لابد لعقلك من التدرب على الاستقلال».

هذه هى الإشارة الاولى فى حياتى شابا قارئا لمن سمعت انه واحد من أفضل الكتاب السياسيين على المستوى المصرى والعربى والدولى، ولم تغادر عقلى أبدا منذ ان قالها لى أبى ومعلمى منير عامر عن محمد حسنين هيكل. لم يعلم أبى عند ابداء الملاحظة والتحذير للابن الشاب، أن الاشارة ستتبدل بعد ذلك اعتزازا بصداقة بين جيلين. الابن والأستاذ.

«هو انت بتروح له كتير كده ليه»!؟

سؤال صديقتى وزوجتى التى شاركتنى كل شىء منذ سنوات المراهقة الا حب السياسة والشأن الحالى ــ تغير ذلك ايضا فى تاريخ ٢٥ يناير ٢٠١١. وبعد أن لبت هى دعوته الودودة والسيدة زوجته أكثر من مرة مع ابنائى، أصبحت لا تسأل عن سبب اللقاءات المتلاحقة، لكنها تشير اليه بألفة لم أعهدها فى إشارتها لشخصيات عامة، فتسأل: «أخبار جدو هيكل إيه؟ وشايف إيه»؟

تدربت فى لحظة ما لدواعى الغربة فى السفر الطويل على الاقتراب فى صداقات حقيقية مع شخصيات يضاعف عمرها بحساب السنوات عمرى. كان فى بعض الأوقات يتساءل بصوت عال: «هو إحنا إزاى أصدقاء»!؟ و كان السؤال عندى بلا إجابة ايضا. حتى لحظة اللقاء الأخير، لم أجد إجابة.

بالتأكيد هناك حقائق الحياة، فهو «الصحفى الأهم» مهما أختلف مع ذلك وحوله أحد. وأنا فى منتصف الطريق، لاقيت قدرا من النجاح، بفضل كثير من العوامل والأفاضل على امتداد سنوات عمر مهنتى. فاللقاء معه يقينا مهم ومفيد. لكن الصداقة خارج حسابات المهنة والعمل كانت أيضا خارج السياق التقليدى.

الصداقات الحقيقية من المجال الواحد شديدة الندرة. فى حالتى لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.

وفى الصداقة مساحة متبادلة من قبول العيوب والاختلاف. لكن شرطها الأساس الا تتحول نفعية من أحد طرفيها. ربما كان ذلك هو السبب.

تحدثت معه فى كل شىء. الخبر فى هذه الصداقة، لم يحتل المركز الاول كما اعتاد كل من اقترب منه. يبدأ الحديث معه بحكم الظرف العام من السياسة لكنه دائما ينتقل لأمور أخرى تصل لتربية الأبناء وأحوالهم، وعقد المقارنات بين ثلاثة أزمان. زمن ينتمى هو له، و ثان يخصنى، وثالث ينشأ فيه ابنائى وأحفاده.

انعكس طابع العلاقة على طقوس اللقاء، حتى ان بعض زائريه الكبار ممن صادف أن تتقاطع مواعيد لقاءاتهم معى قد أبدوا دهشة علنية من السماح لى بالحضور «للاستاذ» بملابس غير رسمية وأحيانا رياضية.

كان فى الواقع صارما لحد لافت فى طقوسه كما حكى وكتب كثيرون. ولم يتخل ــ إلا فيما ندر ــ عن دروع الهيبة التى يعرف أسرارها وكيفية إضفائها على أى مشهد يتصدره.

أخذتنى فى الأسابيع الاولى هذه الطقوس. علاقته بالوقت، والمظهر، دقة اختيار اللفظ، وحرص مبالغ فى كل التفاصيل. حتى ما بدا منه عفويا أو تلقائيا، فعليك ان تعرف انه لا شىء بالصدفة فى مكتب الاستاذ. على الأقل ليس له. قررت التمرد على ذلك بوسائل كثيرة، لم تمر عليه بالطبع، بل سمح هو بها، وأسقط الدروع بقرار منه. ربما بعض الحنو بحكم ضعف سنوات العمر وقت التقينا.

وكانت الاختبارات كثيرة، وقد صارحته فى اللقاء الاول قائلا: «لا أتصور اننى سأغادر هذا المكان راضيا بأننى قد تعرفت على الاستاذ هيكل، وأنه استقبلنى لبعض الوقت. ولا أتصور أنك ستصدق أننى جئت لذلك فقط. يا أستاذ هيكل أنا عاوز اعمل معاك حوار». فجاء رده: «كده مباشرة!؟ حاضر يا سيدى».

(طبعا لم يتحقق ذلك الا بعد تقريبا عام ونصف العام).

انصرفت وفى عقلى ما سأقوله لو تكرر اللقاء، وهو ما حدث بعد ايام معدودة: «أستاذ هيكل، أنا ح أقول لحضرتك حاجة من دلوقتى، أنا مش ناوى أكرر موضوع الحوار.. لما حضرتك تحب أو تجد التوقيت مناسبا، سأكون مستعدا. لكن الآن علاقتنا تبدأ على أساس مختلف، أنا مش ح اتمنظر بحضرتك والشخصى فى هذه العلاقة أولوية لى إن لم تمنعه أنت».

«هو انت بتختفى بتروح فين»!؟

سؤال آخر اعتاد رفيق عمر المهنة وأحد هؤلاء الذين اشرت لهم ضمن عدد اليد الواحدة محمد عبدالمتعال ان يكررها لى بعد الاختفاء أو عدم رد نادر على التليفون. هو الآخر شخص يدمن الخبر، وأيامنا فى ٢٠١١، كان الاختفاء فيها اما مقلقا على المستوى الإنسانى أو مثيرا للفضول على مستوى المعلومة التى سيأتى هو أو أنا بها.

أتذكر ملامح وجه محمد عندما أخبرته بأننى أغلق التليفون عند الاستاذ هيكل، وحكيت له عن اللقاءين. لامنى مرتين: الاولى لما اعتبره تجاوزا بطلب الحوار التليفزيونى بهذه المباشرة «انت بتهزر يا شريف؟»، والمرة الثانية لتجاوزى ما يراه حدود اللياقة مع الاستاذ هيكل، «هو انت عارف انت بتتعامل مع مين والا لا»!؟

المقولات السابقة ربما ترسم ملامح تطور على المستوى الإنسانى. فيها كثير، لكنه يبقى ضمن السياق الخاص. أما الشأن العام، فهذه قصة تختلف أبعادها وتتشابك بحجم ما حدث منذ ٢٠١١، وحتى لحظة المغادرة.

 

……

سنقرأ عن الاستاذ هيكل حروفا وسطورا نسلمها لأجيال من القراء من بعدنا. سنقرأ ثناء ونقدا، حبا جما وهجاء قاسيا. كل بقدر أثر هيكل الاستثنائى فى قلوب وعقول من لم يعرفوه قبل من اقتربوا منه وعرفوه.

أما هو، فسيبقى سيدا للكلمة.

سنقرأ كثيرا عما قاله لهذا، وأكده لذاك. سنقرأ من يتذكر له وعنه. سنتابع استثمارا سياسيا، أو دعاية اجتماعية لاضفاء قيمة أو مكانة من خلال موقف عبر عنه هيكل، أو حتى أقحموه فيه.

فى مقابل ذلك، و قبله، سألتزم أمانة معكم بيقين عندى «لم يقترب من هيكل ولم يبتعد عنه أحد الا بقرار منه شخصيا. تحدث مع الجميع بقدر حدده هو، بينما ظن الطرف الآخر العكس تماما. فتح الباب لكثيرين، لكنه علم وهو يودعهم بنفسه عند الباب مجددا حجمهم وقدرهم».

 

……

أستاذ هيكل..

لقاؤنا قائم وممتد، وسطورك وأفكارك تحيط بى وبالقادمين من بعدى. سنناقشها ونشتبك معها، لكنها ستبقى نموذجا يعلم وقيمة تهدى وتثمر.

أستاذ هيكل..

بمناسبة الثمر، الشجر الذى أهديته لى.. بدأ يزهر.. لاحظته صباح اليوم التالى لانصرافك مباشرة.. كأنه ينقل لى منك رسالة..

أستاذ هيكل..

شكرى وامتنانى لك بلا حدود.. أما لقاؤنا القادم فهو محدد فعلا، و إن لم يعلن.

اقرأ أيضًا:

20 ألف جنيه وراء اعتزال تامر عبد المنعم

ماذا فعلت الميديا في أزمة الدرب الأحمر؟

يوتيوب يغلق حسابات القنوات في هذه الحالات‎‎

لماذا لم تنظم جنازة عسكرية لهيكل؟

75 صورة لمحمد حسنين هيكل ترصد تاريخ العرب

.

تابعونا علي الفيس بوك من هنا

تابعونا علي تويتر من هنا