(1)
كان جحا ذاهبًا الى السوق هو وابنه وهما يركبان سويا على الحمار ، مشهد عادى جدًا ، لكنه لم يعجب الناس ، رأى جحا نظراتهم الساخطة المعترضة ثم بدأ يسمع منهم عبارات مثل : جحا مفيش فى قلبه رحمة .. إنه لا يرفق بالحيوان .. الحمار يلهث من التعب .. يحمله هو وابنه والطريق مازال أمامه طويلاً .. ارحم من فى الارض يرحمك من فى السماء يا جحا .. شعر جحا بالاحراج فقرر ان يتصرف سريعًا ..
(2)
بعد انفصاله عن شركة روتانا وإنشائه لشركة الإنتاج الخاصة به ( ناى ) قرر عمرو دياب لسببِ ما أن تكون بداية إنتاجه لنفسه من خلال تجربة جديدة ومختلفة ، وقرر أن يغنى للقاهرة .. جاءت الأغنية جميلة وبسيطة ونجح دياب بذكائه المعهود فى أن يبتعد عن ( القالب ) المعتاد للأغانى الوطنية التى غالبا ما تعتمد على المبالغة و ( الأفورة ) فى الآداء والصراخ بحب ( تراب ) البلد .. أراد دياب فقط أن يعبر عن عشقه للقاهرة ونيلها وطول ليلها وحكاويها وغناويها .. اذن هى كلمات فى غاية البساطة ولكنها تحقق ما أراده دياب بدقة وتحافظ على الشكل المعتاد لتركيبة أغانيه فى الفترة الأخيرة ( مؤلف الأغنية الشاعر تامر حسين هو من يكتب أغلب أغانى دياب فى السنوات الثلاثة الأخيرة ) .. هى أغنية هادئة تمامًا لا تحمل أى أبعادِ سياسية ، وكان من المفترض أن يكون ظهور العملاق الآخر محمد منير سببًا إضافيًا ليكون استقبال الجمهور لها حافلاً ومحتفِلاً بالحدث التاريخى بظهور دياب ومنير معًا فى أغنية واحدة وهو حدث ضخم وكان كفيلاً بمفرده أن يجعل الكلام عن الأغنية نفسها أمرًا ثانويًا ، ولكننا الآن فى مصر فى عصر السوشيال ميديا أصبحنا نتعامل مع مثل هذه الأمور بمنطق مختلف فرغم أن مواقع التواصل لها الكثير جدًا من الإيجابيات ولكنها بالطبع – كأى شىء اخر – لها سلبيات ولكنها سلبيات قاتلة وأخطرها أن أى حدث لابد وأن يُترجم سياسيًا حتى وإن كان لا يحتمل ذلك ، فالمنظور السياسى أصبح ينظر الجميع من خلاله الى كل شىء حتى وإن كان مجرد أغنية جديدة لنجمِ كبير ، والأسوء من ذلك هو التوسُّع المبالغ فيه فى فكرة ( الألش ) او السُخرية من كل وأى شىء ودون وجود أى ضوابط أخلاقية او إنسانية او حتى وضع حدود لما يصح وما لا يليق وهو الامر الذى يتسبب كثيرًا فى أن يتجاوز الأمر حدود السخرية ليصل فى بعض الأحيان إلى درجة ( الوقاحة ) و ( التطاول ) او التدخل فى تفاصيل الحياة الشخصية للآخرين مثلما حدث مع الفنان الراحل سعيد طرابيك عندما تزوج من شابة صغيرة فتعرض لإهانات بالغة ، لذلك عندما يكون لديك مجتمع يحب ويكره فى الفن والأدب والرياضة من خلال منظور سياسى وكل شىء لديه قابل للسخرية و ( التحفيل ) مع لمحة نظرة سوداوية ناتجة عن انتشار موجة تشاؤمية بسبب حالة الإرتباك السياسى الراهنة وأضف إليهم أننا شعب ( زيَّاط ) بطبعه ، ستجد أنك أمام مشهد عبثى تمامًا تراه بنفسك وتتابعه وتعيش تفاصيله كل يوم على مواقع التواصل ولذلك لم أُفاجأ شخصيًا مثل كثيرين تفاجئوا من ردود الأفعال السلبية المبالَغ فيها التى طالت أغنية دياب الأخيرة لأننى تعلمت الدرس جيدًا منذ واقعة سعيد طرابيك وصرت أتوقع أى شىء من هذا العالم الافتراضى الواقعى شديد التناقض والغرابة ..
(3)
نزل جحا من على حماره وترك ابنه يركبه بمفرده بينما يقوم هو بسحب الحمار خلفه لكنه فوجىء أن هذا أيضًا لم يعجب الناس ونظراتهم الساخطة المعترضة ازدادت شراسة وسمع بأذنه عبارات اللوم توَجَه إلى ابنه : هذا ولد عاق .. يركب على الحمار ووالده يمشى على قدميه ، ألا يخجل من نفسه ؟ .. أين احترامه لأبيه ؟ وأشياء من هذا القبيل ، فنظر جحا إلى ابنه فوجده يكاد يذوب من الخجل وينظر إليه متوسلاً إنقاذه من هذا الموقف المحرج فشعر جحا بالارتباك الشديد ولكنه قرر مرة أخرى أن يتصرف ، وسريعًا .
(4)
أغلب النقد الموجَه للأغنية ركز على فكرة ان مش هى دى القاهرة الحقيقية اللى احنا كلنا نعرفها وعمرو دياب بيغنى لطبقة معينة وهى طبقة الأغنياء و رواد الفنادق الفخمة وبيغنى لهم من مكان يعرفوه كويس من فوق ( روف ) واحد من أضخم وأهم وأشهر فنادق القاهرة ، فين العشوائيات والشوارع والحوارى والزحمة والتكاتك اللى هما معالم القاهرة اللى بجد ؟ طيب جميل اوى .. فلنفترض ان دياب عمل كدة فعلاً وصور الأغنية كلها فى وسط زحام إحدى المناطق الشعبية الجميلة – انا هنا لا أسخر فكل مناطقنا الشعبية جميلة بالفعل وانا منها – وظهرت التكاتك وظهر الباعة الجائلين وعربات الكبدة والمقاهى الشعبية وبيوت العشوائيات وتلال القمامة .. لو كان ظهر كل ذلك او بعضه فى الكليب هل لديك أدنى فكرة عن ماذا كان سيحدث ؟ بكل بساطة كان سيخرج نفس هؤلاء المنتقدون ليقولون : ايه ده ؟ ازاى عمرو دياب يعمل كده ؟! هى دى الصورة اللى بيقدمها لمصر قدام العالم ؟! شوف يا أخى الفنانين بره بيخلوا بلدهم شكلها حلو ازاى وبيجملوها واحنا أكبر مطرب عندنا بيقدم صورة بلده بالمنظر ده ! ده عمرو دياب لو كان قاصد يطفش السياح ويدمر السياحة أكتر ما هى متدمرة مكانش هيعمل كدة .. ! يا عم ده بيمثل انه حاسس بالغلابة وبتاع وبيغنى وسطهم وشوف هو أصلاً راكب عربية بكام ولا عايش فين .. وانت يا عمرو يا دياب عملت إيه للناس ولا تعرف إيه عن مشاكلهم عشان تغنى ليهم او تغنى وسطهم ؟ لم يغنِّ وسط الغلابة فقيل : أيوة طبعا ما انت متعرفش عنهم حاجة وهما مش قد المقام .. ولو فعل العكس وغنى وسطهم كان سيُقال : وانت تعرف إيه عنهم عشان تغنيلهم أصلاً .. يا اخى بلاش نفاق وتمثيل !
(5)
لم يجد جحا مفرًا من أن يقوم بإنزال ابنه من على ضهر الحمار ويركب هو مكانه لعله يرضى الناس ولكنه فور أن فعل ذلك وجد نفس الناس بنفس الاعتراض ونفس نظرات الغضب المتجهة اليه وسمع عبارات اللوم من جديد : جحا مفيش فى قلبه رحمة .. هذا أب قاسى .. يركب على الحمار ويترك ابنه الصغير يسير على قدميه .. شعر جحا بالحيرة ولكنه أيضًا لم يجد مفرًا من أن يتصرف سريعًا ..
(6)
هل كان أمام عمرو دياب اى حل آخر او فكرة أخرى لتصوير كليب الأغنية غير ( روف ) الفندق الضخم المُطل على النيل – كما فعل – او شوارع القاهرة وحواريها كما طالب أغلب المنتقدين ؟ الإجابة هى نعم .. كان لديه بديل تالت .. طبعًا مكانش ينفع ان أغنية عن القاهرة واسمها القاهرة يتعملها كليب يتم تصويره فى الخارج ، أكيد فكرة كانت غير واردة على الإطلاق ولو حدثت كانت هتبقى نكتة بجد ، لكن اللى اقصده ان دياب كان أمامه الحل التقليدى السهل والمعتاد لمثل هذه النوعية من الأغنيات وهى أن يقوم بتصويرها فى أشهر المناطق التاريخية والأثرية مثل الأهرامات او برج القاهرة او القلعة او شارع المُعز مع لقطتين للنيل مثلاً ودمتم ، لكن دياب اللى هرب من الشكل التقليدى للأغنيات الوطنية الزاعقة طبيعى انه يهرب برضه من الشكل التقليدى للكليبات اللى بتتعمل للأغنيات الوطنية الزاعقة .. وبرضه حتى لو كان عمل كدة ولو حتى من باب انه ( يريح ) دماغه لم يكن ليَسلم أيضًا من النقد وكان سيخرج نفس العباقرة ليقولون : ده كليب قديم وممل اوى .. ده اتعمل مليون مرة قبل كدة .. إيه بقى الجديد اللى قدمه عمرو دياب ؟ .. عمرو دياب شكله أفلس خلاص ومبقاش عنده اى جديد يقدمه .. وانت فرقت إيه كدة يا عم عمرو عن آمال ماهر ولا حسين الجسمى ، هو احنا معندناش غير الأهرم والقلعة وشوية الأماكن دى بس وكل ما نغنى لمصر لازم نجيبهم ؟ هو ليه كله بقى بيستسهل ومفيش حد عايز يتعب دماغه ويفكر بره الصندوق ويبدع عشان يعرف يقدم حاجة جديدة ؟ هرم ونيل وبرج القاهرة حتى انت يا عمرو يا دياب ؟! مكانش هيخلص برضه والله من ( الهرى ) وأهله .
(7)
قرَّر جحا أن ينزل من على حماره وألا يركبه لا هو ولا ابنه وأن يقومان بسحبه خلفهما حتى ( يشترى ) دماغه ويرتاح من اعتراض الناس الدائم وسعيًا لكسب رضاهم ولكنه فوجئ هذه المرة بأن الناس تضحك عليه بشدة ويقولون : انظروا إلى جحا ، لقد أصابه الجنون .. يملك حمارًا ولا يركب عليه فلماذا قام بشرائه هذا المخبول ؟ .. فليركبه هو او ابنه المهم أن يستفيد منه .. شعر جحا بأنه عاجز عن التفكير ولكنه بطبيعته العنيدة قرر ألا يستسلم وأن يقدم آخر ما يملكه من حلول فى محاولة أخيرة منه لإرضاء الناس ..
(8)
قام جحا وابنه بحمل الحمار والسير به فى الطريق لعل الناس ترضى عنهم او حتى تصمت وتتركهم فى حالهم وهو نفس ما كان عمرو دياب على وشك أن يفعله أيضًا سعيًا لإرضاء جمهوره – وهى الرغبة التى ظل طوال مشواره الفنى الكبير حريصًا عليها – كان دياب سيحمل حماره الخاص اقتداءً بجحا لولا ان رأى منير يلطم على وجهه وهو ينظر الى إحدى ( حارات ) القاهرة التى كان يسير بها جحا وابنه وهم يحملون الحمار فوق رؤوسهم ليلفت منير انتباه عمرو إلى أن الناس تضحك على جحا وابنه وهم يحملون الحمار وتقول : لقد اشترى جحا الحمار ليكون له حمار ، لطم منير ضاحكًا فابتسم عمرو دياب وقرر أن يقدم الأغنية بالشكل الذى يرضيه هو ، وبما يراه يليق باسمه وتاريخه ، واللى مش عاجبه هو عارف كويس هو هيشرب منين .