"لُعبة أرملة".. متى كان الواقع أقل قسوة من الخيال؟

أحمد عمر

في إنتاج مُشترك بين "نتفليكس" و"بامبو بروداكسيوني" الإسبانية للإنتاج السينمائي، أبدع المخرج الإسباني كارلوس سيديس من خلال فيلمه "لُعبة أرملة"، في أن يؤكد للمُشاهِد أن الواقع لم يكن يومًا أقل قسوة من الخيال الدرامي؛ بل ربما يتجاوزه ببضع درجات، حتى وإن بدا للبعض غير ذلك!

لا يمكن اعتبار "لُعبة أرملة" مجرد تجسيد لقصة حقيقة تتناول جريمة قتل مُروِّعة حدثت بالفعل في مقاطعة فالينسيا الإسبانية ذات الحكم الذاتي؛ إنما سرد درامي ذا حبكة مُتقنة، نجح من خلالها المخرج في إقحام المُشاهِد في قلب الأحداث، ظنًا منه أن ما يحدث أمامه ليس سوى خيال جامح لمؤلف عبقري استطاع أن ينسج خيوط الأحداث بدقةٍ شديدة، لدرجةٍ يصطدم فيها المُشاهِد بحقيقة أن كل هذه الأحداث وقعت بالفعل، مع القليل من اللمسات الدرامية، ليس من أجل الإثارة، لكن بهدف الحفاظ على خصوصية أبطال القصة الحقيقيين. ولم يغب عن صُنَّاع الفيلم التنويه في تتر البداية بأن هذا الفيلم يستند على أحداث حقيقية، لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيًا!


ورغم أن تجسيد الأعمال الحقيقية عادةً ما يكون دراميًا بدرجة كبيرة، إلّا أن "لُعبة أرملة" قدَّم لنا نموذجًا مميزًا في الأعمال الدرامية الممزوجة بالإثارة والرُعب؛ بدءًا من المشهد الاستهلالي المُعتِم، في مرآب للسيارات تحت بناية سكنية يقطنها العديد من الأفراد والعائلات من خلفيات ثقافية واجتماعية مُتعددة فيما يبدو، ومرورًا بأجواء المشاجرات الزوجية التي تتوقع أن تتحول إلى مسارات دموية في أي لحظة، وليس انتهاءً بجريمة القتل نفسها.

لم تكن المَشاهِد في الدقائق الأولى توحي بأن مؤامرةً دُبِّرَت بليلٍ، ولا أن فتاةً لعوبًا تتحول بإرادتها لزوجة خائنة، ثم مُدبِّرة ومُحرِّضة على قتل زوجها الذي لم تعد تتحمله، لأسباب عدة؛ أهمها أنه يَحُول بينها وبين نزواتها الشهوانية مع رجال آخرين.

الفيلم بدأ بحالة من الغموض، عندما كان رجل وامرأة يستقلان دراجة نارية، ويتجهان إلى المرآب أسفل البناية السكنية، ليعثُرا على جثةٍ مُدرجةٍ في دمائها بصورة مُرعبة، أفزعتهما، لتأتي الشرطة سريعًا وتمارس تحرياتها. وفي تلك الأثناء، تظهر "الأرملة" التي تبدو عليها الصدمة والمفاجأة، لتنفجِر في بكاءٍ شديدٍ وترتمي في أحضان رجلٍ لم تتضح هُويته حتى نهاية الفيلم؛ ما دفع محققو المباحث- فيما بعد- لافتراض أنه أحد عُشَّاقها الكثيرين!


نجح المخرج في المزج بين الماضي والحاضر، واستطاع محو الهُوَة الفاصلة بين الزمنين، مُستخدمًا في ذلك تقنية الاسترجاع السردي "الفلاش باك". ورغم طول مدة الفيلم نسبيًا والتي تصل إلى أكثر من ساعتين بدقيقتين تقريبًا، إلّا أن هذه التقنية ساعدت على وَأْدِ أي شعور بالملل، فكانت أقرب إلى الإثارة منها إلى الرتابة. وعبر الاسترجاع السردي لخلفيات الأحداث، يتبين أن بطلة الفيلم "ماهي" فتاة في العشرينيات من عمرها، تنحدر من أسرة مُتزمتة دينيًا، يتضح فيما بعد أنهما عضوان في جماعة مسيحية يمينية متشددة، كما تجلى ذلك خلال زيارة مُحققة المباحث "إيڤا" لمنزل عائلتها في مدينة ريفية؛ إذ كان المنزل أشبه بكنسية، فالصُلبان معلقة على معظم جدرانه، والشموع لا تفارق أركانه، حتى إن والديها أهدايا "ماهي" صليبًا عملاقًا عندما انتقلت إلى العيش في منزل الزوجية.

التنشِئة الدينية كانت حاضرة بوضوح في حياة "ماهي"، فإلى جانب أنها تعمل ممرضة في أحد المستشفيات، فإنها تداوم في وظيفة مماثلة داخل دار لرعاية المُسنين تابعة لإحدى الكنائس، وتخضع تمامًا لإدارة الراهبات. لكن في المقابل لم تكن هذه التنشئة الدينية ظاهرة في تصرفاتها؛ بل يبدو أنها كانت السبب الرئيس لتمرُّد "ماهي" على حياتها التي نشأت فيها؛ إذ سعت بكل طاقتها أن تخوض علاقات غرامية مع أشخاص كُثُر، حتى إنها افتضح أمرها مع أحد الشُبان قبل شهرين من زواجها، لكن خطيبها- آنذاك (وزوجها لاحقًا)- أظهر عفوًا غير مفهوم وسامحها على "خطيئتها" واستكملا الزيجة وعقدَا القِران في الكنسية! ربما لأن زوجها لم يكن هو الآخر مُتدينًا مثل أسرته التي ترعرع فيها، ويتضح ذلك عندما شاهد الصليب الضخم في يد "ماهي" لأول مرة وهما يستعدان لتجهيز منزل الزوجية، وتحول الحوار بينهما إلى سخرية من الدين.


تتطور الأحداث بوتيرة معتدلة، فلا هرولة ولا بُطء غير مُبرَّر؛ حيث استطاع المخرج أن يحقق انسيابية في المسار الدرامي، لكي يقتنع المشاهد بأن "ماهي" لم تكن فقط امرأة متعددة العلاقات الغرامية، لكنها أيضًا امرأة لعوب، تتلاعب بالرجال لتحقيق أهدافها، إما لإشباع رغبة جنسية تبدو جامحة في بعضها، أو لإقناع نفسها أنها قادرة على التحكم في أي رجل وتحريكه بأطراف أصابعها.

استطاعت "ماهي" بجاذابيتها وجمالها الفتّان، أن تلفت أنظار معظم الرجال الذين يظهرون في حياتها، لكنها كانت تتحلى بذكاءٍ يساعدها على كيفية "استخدام" كل رجل على النحو الذي يُرضيها، والثمن في كل مرة معروف؛ إنه الجسد!

خططت "ماهي" لجريمة القتل من خلال إغواء زميلها في العمل، "سالفا" أو "سالفادور"، وهو مُمرض يُزاملها هو وزوجته في نفس المستشفى الذي تعمل فيه "ماهي". تخبرنا الأحداث أن "ماهي" استطاعت إغواء "سالفا" صاحب الـ47 عامًا، والذي يبدو أنه كان يمُر بأزمة منتصف العُمر؛ فهو زوج وأب لابن في سن الثامنة عشرة على الأقل، وصاحب بنيان ضخم، يحرص على صبغ شعره كي لا تلمع بعض الشعرات البيضاء في رأسه، رغبة منه فيما يبدو لكي يظل "شبابًا" في عيون الآخرين، وربما في عيون "ماهي" بالتحديد.


استجاب "سالفا" لكل غوايات "ماهي"، وخضع لها تمامًا؛ بل إنها أقنعته أنه يمنحها حبًا لم يستطع أحد أن يمنحها مثله من قبل!! نجح المخرج في إظهار "سالفا" بأنه عجوز مُتصابٍ، رغم أنه في الأربعين من عمره، لكن ذلك يتضح من مِشيَتِهِ التي تبدو ثقيلة، وانحناءة ظهره الخفيفة، ونظَّارته التي تمنحه 5 سنوات على الأقل فوق عمره، وبكل تأكيد غباؤه الذي قاده للانصياع إلى رغبات امرأة لعوب تخدع جميع الرجال.

كان "سالفا" مُستعدًا لتنفيذ كل ما تطلبه "ماهي"، ليس فقط من دافع الحُب والغرام، لكن أيضًا لأن "ماهي" أقنعته كذبًا بأن زوجها يمارس عنفًا أسريًا ضدها، وأنه تعرض لها بالضرب أكثر من مرة. ويبدو أن "شهامة" الرجل الريفي قد سيطرت عليه وعززت من رغبته في "تخليص" عشيقته من "جحيم" زوجها.

استطاعت "ماهي" أن تخدع الجميع، فقد خدعت أسرتها في البداية، وربما خدعتهم كثيرًا أثناء الطفولة، من يعلم؟! ثم خدعت زوجها قبل وبعد الزواج، وخدعت "سالفا" وقادته إلى مصير لا يتمناه أحد على الإطلاق. كما خدعت "دانييل" الشاب الثري الوسيم صاحب الجسد الرياضي، والذي وقع في غرامها من أول نظرة؛ بل ومارس معها علاقة غرامية دون أن يعرف أحدهما اسم الآخر! خدعت "ماهي" "دانييل" عندما أخفت عنه أنها امرأة متزوجة ثم أرملة، وكانا على وشك الارتباط والزواج؛ فقد اختارا شقة الزوجية على ضفاف البحر المتوسط، والتي تُطل على مشهد بانورامي رائع لطالما كانت تتلطع إلى تناول العشاء واحتساء النبيذ في أحد المطاعم هناك، لكن زوجها لم يكن يُلبي هذا الحُلم؛ لأن مثل هذه الفُسحة "باهظة الثمن"، والأفضل المحافظة على ما لديهم من أموال لتغطية نفقاتهم، هكذا كان يُبرِّر لها.

التصوير والإضاءة والصوت في كل مشاهد الفيلم، كانت متماشية مع الأحداث؛ فالظلام والإضاءة الخافتة وشمس النهار خدمت كل مشهد، وزوايا التصوير استطاعت أن تنقل للمُشاهِد الأبعاد النفسية للشخصيات.

عانى الفيلم من بعض المشاهد الزائدة، والأحداث الجانبية، فمثلًا إقحام ابنة المُحقِّقة "إيڤا" ومشكلاتها في مدرستها ضمن الأحداث لم يكن مفهومًا، ولكن ربما كان الهدف مزيدًا من "الأنسنة" للشخصيات، أو عقد مقارنة في أساليب التنشئة، بين العائلة المتزمتة دينيًا والتي تسببت في كبت ابنتهم، وبين المُحقِّقة "إيڤا" التي بدا واضحًا أنها تُربي ابنتها على قيم الحرية والحق والخير والعدل.

الخيانة والخداع والعلاقات المُتعددة والدين وأخلاقيات العمل، موضوعات "ثيمات" كانت حاضرة بقوة في هذا العمل الدرامي المثير من خلال شخصية "ماهي" وعشيقها، لكن أيضًا قيم الشرف والتفاني في العمل والنُبل والوفاء للأصدقاء لم تغب، من خلال شخصية المُحقِّقة "إيڤا"، التي استطاعت فك طلاسم جريمة القتل والإيقاع بالمتهمين، بفضل مهنيتها وإدارتها لسير التحقيقات لمدة تجاوزت الشهرين.

لكن بين هذه المُتناقِضات، يتضح أن الواقع ربما يكون أشد قسوة من الخيال، فمن يتصوَّر أن زوجة تُدبِّر لقتل زوجها، وتستخدم من أوهمته بأنه عيشقها لكي يُنفِّذ الجريمة، ويُمارِس كلٌ منهما حياته بعدها بصورة طبيعية، دونما ارتباك؛ بل إنها نجحت في وضع قناع البراءة على وجهها تارة، وقناع الحُزن على زوجها المغدور تارة أخرى، وفي كثير من الأحيان كانت تظهر بوجهها الحقيقي، وجه المرأة اللعوب بمشاعر الرجال الضعفاء والباحثين عن العلاقات الغرامية وحسب.

نرشح لك: شاهد.. الإعلان الأول لفيلم "سفن دوجز" لـ كريم عبد العزيز وأحمد عز