مَرحَباً بِالرَبيعِ في رَيعانِهِ ** وَبِأَنوارِهِ وَطيبِ زَمانِه
رَفَّتِ الأَرضُ في مَواكِبِ آذا ** رَ وَشَبَّ الزَمانُ في مِهرَجانِه
نَزَلَ السَهلَ ضاحِكَ البِشرِ يَمشي ** فيهِ مَشيَ الأَميرِ في بُستانِه
عادَ حَلياً بِراحَتَيهِ وَوَشياً ** طولُ أَنهارِهِ وَعَرضُ جِنانِه
لُفَّ في طَيلَسانِهِ طُرَرَ الأَر ** ضِ فَطابَ الأَديمُ مِن طَيلَسانِه
ساحِرٌ فِتنَةَ العُيونِ مُبينٌ ** فَصَّلَ الماءَ في الرُبا بِجُمانِه
عَبقَرِيُّ الخَيالِ زادَ عَلى الطَي ** فِ وَأَربى عَلَيهِ في أَلوانِه
صِبغَةُ اللَهِ أَينَ مِنها رَفائي ** لُ وَمِنقاشُهُ وَسِحرُ بَنانِه
رَنَّمَ الرَوضُ جَدوَلاً وَنَسيماً ** وَتَلا طَيرَ أَيكِهِ غُصنُ بانِه
وَشَدَت في الرُبا الرَياحينُ هَمساً ** كَتَغَنّي الطَروبِ في وُجدانِه
كُلُّ رَوحانَةٍ بِلَحنٍ كَعُرسٍ ** أُلِّفَت لِلغِناءِ شَتّى قِيانِه
نَغَمٌ في السَماءِ وَالأَرضِ شَتّى ** مِن مَعاني الرَبيعِ أَو أَلحانِهِ
أَينَ نورُ الرَبيعِ مِن زَهرِ الشِع ** رِ إِذا ما اِستَوى عَلى أَفنانِه
سَرمَدُ الحُسنِ وَالبَشاشَةِ مَهما ** تَلتَمِسهُ تَجِدهُ في إِبّانِه
حَسَنٌ في أَوانِهِ كُلِّ شَيءٍ ** وَجَمالُ القَريضِ بَعدَ أَوانِه
لم تكن القصيدة مما جذبني في الشوقيات مع بدايات توطّد علاقتي بها، وهي بدايات نشأتي الأدبية الحقّة؛ فالخفيف لم يكن عندي حينها في روعة الكامل والبسيط فائقَي التدفّق والسلاسة والعذوبة بحسب مزاج المراهقة النفسية والأدبية؛ والحق أنهما لا يزالان يحتفظان بتلك الروعة لديّ، ولكن ما يحدث عادة أن كلا المزاجين النفسي والأدبي يصبح أشدّ تهيّؤاً وأفضل استيعاباً للألوان الأدبية والموسيقية – وبحور الشعر هي الامتزاج الأمثل للأدب والموسيقى – مع التقدّم عبر مراحل النضوج النفسي والأدبي بحيث يقع متذوّق الأدب/الفن على لذة وفائدة ما كان يستثقله أو حتى ينكره فيما مضى من أشكال الفن وألوانه على اختلافها، دون أن يلغي ذلك بطبيعة الحال استمرارَ المفاضلة بين الأنواع الأدبية والأشكال الفنية في أفكار ووجدان متذوّق الأدب/الفن على مدى حياته بما قد يصل إلى حدّ انقلاب معايير التذوّق لديه انقلاباً كاملاً او شبه كامل فيغدو ما يشدّه ويؤنسه في شيخوخته هو ما كان ينفر منه ويتحمّله مضطرّاً في صباه وبواكير شبابه.
نرشح لك: عمرو منير دهب: قل لي نُصير وما بعد الحداثة
لم يستغرق الأمر طويلاً كي أتصالح مع بحر الخفيف بصفة عامة ومع نونية شوقي البديعة هذه على نحو خاص؛ وعندما تأمّلتها متذوّقاً لم تبخل عليّ بأيٍّ مما يمكن أن تغدق به على القارئ شاعرية شوقي من النفحات في الأساليب والمعاني، والأدهى في الموسيقى سواءٌ الداخلية الغنية التي يبرع فيها الأمير أو الخارجية التي تشكّلها تفاعيل الخفيف (فَاعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلاَتُنْ) بزحافاته الشائعة بين الشعراء جميعاً على حدّ سواء. وقد بلغت من التصالح/الإعجاب بالخفيف أن استلهمته (استلهمت المناسبة كلها في الواقع) حين أقام لي بعض الأصدقاء من الشعراء أيام الجامعة تكريماً شعرياً في نطاق "طلّابي" ضيّق أنشدتهم فيه:
يا رفاقاً حفظتُمُ العهدَ حُبّاً ** ووفاءً بل زدتمُ إحسانا
كرّمتْني جماعةٌ من كرامٍ ** كيف أجزي صنيعَهمْ شكرانا؟
قد بلغتمْ مدى الثناء فلا أمْـ ** ـلِكُ من بعدُ للثناء لسانا
وعلى اختلاف المقامين اختلافاً جذرياً، فإن مقارنة طريفة بين الملهِم والملهَم تفضي إلى مفارقة مفادها أن الأول كان أشدّ تواضعاً من الأخير، فقد كان غاية تهذيبي وامتناني تجاه أولئك الزملاء الكرام من الشعراء أن شكرت لهم حفظهم العهد (كأنّما أقرّ ضمنيّاً بأحقيّتي بالتكريم) مضيفاً إقراري بالعجز عن الوفاء بحق الثناء كونهم بلغوا فيه المدى، في حين بدا أمير الشعراء متواضعاً إلى حدّ أنْ رأى أنّ مَن كرّمه هو الأولى بالتكريم:
رُبَّ سامي البَيانِ نَبَّهَ شَأني ** أَنا أَسمو إِلى نَباهَةِ شانِه
كانَ بِالسَبقِ وَالمَيادينِ أَولى ** لَو جَرى الحَظُّ في سَواءِ عنانِه
بعيداً عن المقارنة الساخرة، ولكن في قلب الاحتفال بتتويج أمير الشعراء، هل كان شوقي محقّاً فيما ذهب إليه في البيتين السابقين وما تلاهما مما سنعرض له بعد قليل؟ بل هل كان الرجل أصلاً يعني ما يقول حرفيّاً؟
"لا" صريحة إجابةً على السؤالين معاً، فلا كان شوقي يعني ما يقول حرفياً ولا كان غيرُه أولى منه بإمارة الشعر، وذلك بتذكّر ما أميل إلى تأكيده باستمرار من أن اللقب – أي لقب - لا يعني في ذاته شيئاً، وكما قيل فإن لقب شوقي كان من الممكن أن يكون شاعر العروبة مثلاً لو أن الاحتفاء به كان تحت ظلال حكومة قومية عروبية لا دولة ملكية أشرفت بشكل واضح على التتويج المستحق على كل حال.
في كتابه "أحمد شوقي"، طبعة سنة 1988 عن دار الجيل ببيروت، يقول الدكتور زكي مبارك: "شوقي شاعر محسود، فقد ملأ جميع الأسماع وأشجى كثيراً من القلوب، وقد أتيح له أن يظل زعيم الشعراء أكثر من أربعين عاماً، وهي زعامة حقة لا يمتري فيها إلا المكابرون. وكم شقي خصومه في هدمه وهو على مرّ الزمن لا يصنع فيه النقد المغرض إلا كما يصنع المطر من متين الحصون، لا تسأل عن السرّ في عظمة شوقي لأن الشعر في أكثر الأحيان من النفحات الإلهية التي لا تنال بالجد وعرق الجبين، فليس هو بأعلم معاصريه ولا أذكاهم ولا أعرفهم بطبائع الحياة وسنن الوجود وقد أفصح عن ذلك أبدع إفصاح حين قال..."، ثم أشار مبارك إلى الأبيات التالية من قصيدة شوقي في حفل تكريمه (لم يورد البيت الأول من المقتطف):
لَستُ أَنسى يَداً لِإِخوانِ صِدقٍ ** مَنَحوني جَزاءَ مالَم أُعانِه
رُبَّ سامي البَيانِ نَبَّهَ شَأني ** أَنا أَسمو إِلى نَباهَةِ شانِه
كانَ بِالسَبقِ وَالمَيادينِ أَولى ** لَو جَرى الحَظُّ في سَواءِ عنانِه
إِنَّما أَظهَروا يَدَ اللَهِ عِندي ** وَأَذاعوا الجَميلَ مِن إِحسانِه
ما الرَحيقُ الَّذي يَذوقونَ مِن كَر ** مي وَإِن عِشتُ طائِفاً بِدِنانِه
وَهَبوني الحَمامَ لَذَّةَ سَجعٍ ** أَينَ فَضلُ الحَمامِ في تَحنانِه
وَتَرٌ في اللَهاةِ ما لِلمُغَنّي ** مِن يَدٍ في صَفائِهِ وَلِيانِه
الأبيات رائعة على عادة شوقي سواءٌ في معرض فخر أو في مقام تواضع مصطنَع أو غير ذلك: موسيقى الخفيف الهادئة التي تناسب مشاعر المحتفى به وقاراً ودعة، اللغة المنتقاة ألفاظُها بعناية وإحساس مرهف طروب، الصور البلاغية المعاد تشكيلها في قوالب بديعة، أسلوب الخطاب الآسر بتهذيبه البالغ.
ولكن زكي مبارك رغم إقراره مجملاً بعبقرية شوقي لم يكن محقّاً في أمرين: الأول هو تصديقه الشاعرَ في تواضعه المصطَنع، فليس شرطاً أن يكون أفضل الشعراء "أعلم معاصريه وأذكاهم وأعرفهم بطبائع الحياة وسنن الوجود"، ولكنه بالضرورة من يبرع في إظهار سعة علمه وحدّة ذكائه ومعرفته العميقة بطبائع الحياة وسنن الوجود في شعره على النحو الأمثل، وقد فعل شوقي ذلك – وأكثر - كما لم يفعله معاصروه وكما لم يسبقه إليه فحول الشعراء من الغابرين. الأمر الثاني الذي جانب فيه مبارك الصوابَ هو اعتقاده بصلابة شوقي النفسية إزاء النقد المُغرض، فالرجل – في المعلوم من سيرته الصريحة لا تلك المتداولة بداعي التمجيد – كان بالغ الحساسية تجاه تلك الطريقة من الاستهداف النفسي بمحاولات النيل من أعماله الإبداعية، وكان – لولا طبائع النفس التي لا حول لأحد فيها ولا قوة عندما تكون متأصلة مستحكمة – في غنى عن تلك الحساسية المفرطة لسموّ شعره منقطع النظير.
غير أن شاعرنا العظيم لم يكن يقف مكتوف الأيدي حيال خصومه المغرضين، بل ربما ظلّ يعمد إلى خطوات استباقية ليس لشن هجمات مضادة على أولئك الخصوم وإنما لترسيخ مكانته الأدبية من خلال علاقاته مع النافذين مفيداً من ثرائه الذي يمكنه من إغداق ما يكفي من المال لإدارة الحملات الإعلامية اللازمة.
في كتابه "حياة شوقي"، نسخة على الإنترنت، يقول أحمد محفوظ: "وكان شوقي على عظيم مكانته وعلى قدمه الراسخة في الفن والخلود متعباً منهوكاً، لا يستقر من الدأب بين دور الصحف، فهو في كدّ بين داود بركات في الأهرام وعبد القادر حمزة في صحيفة البلاغ والدكتور هيكل في السياسة وأمين الرافعي في الأخبار وتوفيق دياب في الجهاد. كذلك مائدته لا ترفع أطباقها، ولا يطوى غطاؤها، فهي دائماً محفوفة بالصحفيين وغيرهم ممن تخشى أقلامهم ويخاف نقدهم".
مهما يكن من أمر شوقي بالنظر إلى طبيعته النفسية الفريدة التي كانت وراء ردّات فعله تجاه مَن حوله سواء مِن المغالين في الانحياز له أو المفرطين في الحنق عليه واستهدافه، وبصرف البصر عن البراعة الفنية الاستثنائية التي هي أساس نبوغه، فإن ما آل إليه أمير الشعراء من مجد عظيم هو حظ مستَحق، حظ صادف أهله؛ ولا أظن أن الحظ يهتم على أية حال بمعايير الجدارة الفنية بقدر يُذكر، والأرجح أن أميرنا هذا كان يعلم ذلك تماماً، لذا لم يركن إلى عبقريته الشعرية وحدها وإنما سعى بموازاتها إلى نسج شبكة علاقات اجتماعية وسياسية عظيمة الأثر، وأشرف بنفسه على إدارة حملات إعلامية من طراز ساحق لم يكن يحفل على ما يبدو بما يمكن أن يقوله الناس عنه إذا ترامت أخبارها إلى مسامعهم.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])