عمرو منير دهب يكتب: لا أحد أكبر من الوهم.. الفصل الأخير من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

كما رأينا من قبل، فإن الجماهير أكبر المغيّبين، لكن فئات الجماهير على اختلافها ليست وحدها بطبيعة الحال المغيَّبة؛ فحتى من يقوم بتغييب الجماهير - أو على الأقل يُتّهم بذلك - هو نفسه مغيّب، أو – للدقة - يُغيّب بقدر أو آخر من حين إلى حين؛ وإنْ يكن الأكثر دقة عندي أننا جميعاً مغيّبون في كل الأوقات في أكثر من ناحية من النواحي المتعلّقة بإدراكنا لما حولنا، فليس من المنطقي أن يستحضر إدراكُنا كلَّ ما يحيط بنا وأن يعيه تماماً في كل لحظة.

ثمة مجادلة/مفارقة أخرى متعلّقة بالوعي الذي هو – بتجاوز دقائق التصريف اللغوي ودلالاتها - نقيض التغييب، فالمعضلة ليست كامنة فقط في أنْ نعلم ما يقع حولنا بل فيما ننشده من "حقيقة" ما يقع؛ ولا شيء أبعث على الجدال من "الحقيقة" التي لا تتغيّر فقط نتيجة إصرار كل طرف على امتلاكها لتحقيق مصالحه (بغض النظر عن مدى إيمانه بما يفعل)، وإنما لكون "الحقيقة" نفسها لا تقلّ مراوغة - من تلقاء نفسها - عمّا يفعله بها الآخرون.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الجماهير أكبر المغيَّبين.. الفصل الثاني والثلاثون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

ننزعج عندما تتضارب الحقائق بحسب ما يزعمه كلٌّ منّا، كأنّما المنطق يملأ العالم. وإذا كان لا بدّ من الاتفاق على تعريف للمنطقي/المعقول، فالأنسب هو تعريفه على أنه ما وقع وما يقع وليس ما نشتهي أو نتوقّع وقوعه من أحداث.

رأيْنَا في "طريق الحكمة السريع" أنه "من عبقرية الحياة أنها تقنعنا بكونها الواقع وأن هناك شيئاً آخر اسمه الوهم".

كأنّما الحقيقة والوهم يمتزجان، أو ربما يتبادلان الأدوار باستمرار.

نحن لا نكاد نفلت من أوهامنا حول أنفسنا، فضلاً عن أوهامنا عن الآخرين وسائر ما يحيط بنا. حقائقنا التي ندركها عن أنفسنا تتغير، فكأنّما نقرأ ذواتنا كل مرة من مدخل جديد أو كأنّ ذواتنا متغيرة وليست على ما نخال/نزعم من الثبات.

حتى مع كثير مما جرى في ماضينا – ليس البعيد بالضرورة – نكاد نجزم أن أمراً ما لم يحدث لولا وجود صور أو وثائق تكشف "تورّطنا" فيما حدث؛ الأمر هنا ليس مقصوراً على ما نخجل منه لكونه مشيناً بل يشمل بصفة عامة ما نستبعد فعله وفق معاييرنا - الأخلاقية أو النفسية – الحالية. نتغيّر إلى درجة أن أيّاً منّا لا يكاد يصدّق أن وجدان ذلك الإنسان الذي كان في تلك المرحلة السابقة من حياته هو نفسه الذي ينطوي في جسده الآن؛ وذلك فضلاً عن الجسد الذي يتغيّر بدوره بما لا يكاد يشي إلى صاحبه القديم سوى من خلال لمحات عابرة.

نسخر من الآخرين في مواقف عملية واتجاهات فكرية ونزعات عاطفية بعينها، ثم نقع في قبضة تلك المواقف والاتجاهات والنزعات بحذافيرها.

لا أحد منّا إذن أكبر من الوهم، ليس بالضرورة لأن ثمّ من يحجب عنّا الحقيقة في مواقف بعينها، وإنما ابتداءً لأننا لا ندرك بما يكفي الحقيقة التي نبحث عنها. ثَمّ دوماً حقيقة أخرى على الأرجح مستترة خلف ما نقتنصه على أنه الحقيقة الضائعة ونركض به فرحين.

يقول وليام غاي كار William Guy Carr في كتابه Satan Prince of This World، نقلاً عن الترجمة العربية بعنوان "الشيطان أمير العالم" عن دار "الأهلية للنشر والتوزيع" بعمّان سنة 2017: "ومن الممكن أن يكون غرور إبليس بميزاته الملائكية، أي المنصب والطابع والشخصية، قد جعله يرغب في أن يكون في نظامه الخاص كما الرب في النظام الإلهي. بكلمات أخرى، قد يكون غرور إبليس النابع من شعوره بالكمال جعله يتمنى أن يكون هو الحاكم لنظام خاص به وتابع له بدلاً من أن يبقى خاضعاً للرب، بصرف النظر عن المنزلة الجليلة التي رفعه إليها الرب. ولا يُستدل من هذا الخط في التفكير أن إبليس كان أحمق إلى درجة أن يرغب في خلع الرب عن العرش. ولكنه رغب فقط في حكم قسم من الكون انطلاقاً من حقه الشخصي. ويعاني البشر في هذه الأيام من الأنا المتضخمة من النوع ذاته. ويمكن تسميتها رغبة عارمة في الاستقلالية المطلقة، أو الاكتفاء الذاتي. ويتفق القديس توماس وسواريز على أن الخطيئة التي ارتكبها إبليس كانت خطيئة الغرور، إلا أنهما يختلفان مع بعضهما البعض بشأن ما الذي شكّل خطيئة الغرور التي ارتكبها إبليس".

نحن أصغر من أن نحيط بالحقيقة لأننا لا نحيط بالعالم الذي بين أيدينا، فضلاً عمّا يقع وراءه من عوالم؛ وعليه فإن مداخل الوهم – أو مداخل الحقائق المتتالية التي يطيح كلٌّ منها بالآخر - ممّا لا ندركه لا حصر لها؛ غير أنّنا لسبب ما يتملّكنا الغرور فيستبدّ بنا إلى حدّ أن نتخيّل أننا نعرف الحقيقة كاملة وأن ما سواها/سوانا هو الباطل.

نغضب عندما نكتشف أننا كنّا تحت ستار/سيطرة الوهم لأيٍّ من الأوقات، والأرجح أننا نخرج من أسر الوهم ليس إلى فضاء الحقيقة بل لنقع في قبضة وهْم آخر. وبالرجوع مجدداً إلى "طريق الحكمة السريع" نقرأ أن "الحقيقة متاحة، بيد أن أحداً لن يبصرها قبل أن يدرك اللانهاية"؛ ولكن – بالافتراض جدلاً أن إدراك الحقيقة ممكن - يظل "مأزق الحقيقة ليس في إدراكها، ولكن فيما نستطيع أن نفعل بعد ذلك". وبالعودة إلى معضلة الحقيقة المطلقة المرتبط إدراكها باللانهاية - التي هي أشبه بالدوران في حلقة مفرغة – تبدو الحالة التالية جديرة بالتأمّل: "عندما فطنت إلى تمثيلية الحياة كان إحساس الصدمة الذي اعتراني صاعقاً: دهشة فريدة من غرابة الاكتشاف وفزع مطبق من الحقيقة القادمة".

الأرجح أننا بعد أن ندرك أن حجم الحقيقة أكبر من أن ندركه - فضلاً عن مراوغة أيٍّ قدر من ذلك الحجم نخال أنفسنا أحطنا به - نعود بملء إرادتنا لننغمس في نعيم الوهم.

والحال كتلك، ألا يبدو التمثيل كما لو كان بمثابة شرط بقائنا الأقوى؟ بكلمات أخرى، ألا تبدو قدرتنا على الاستمرار في الحياة منوطة بما في حوزتنا من طاقة لمواصلة التمثيل؟

أخيراً، في محاولة ليست على صعيد اكتشاف المزيد حول كنه الحقيقة/الوهم بل من أجل تخطّي إثم الغرور، نتأمّل مع "طريق الحكمة السريع" السؤالين التاليين: "ما هذا القدر الزائد الذي أضفيه على نفسي؟ ما قيمة أن أعرف أنا الحقيقة؟".