عمرو منير دهب يكتب: الجماهير أكبر المغيَّبين.. الفصل الثاني والثلاثون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

يقول أدولف هتلر Adolf Hitler في كتابه ذائع الصيت Mein Kampf "كفاحي"، نقلاً عن الترجمة العربية للويس الحاج ونسخة دار بيسان ببيروت سنة 2014، يقول زعيم ألمانيا النازية الذي طبّقت شهرته الآفاق: "وما نسمّيه "الرأي العام" لا يرتكز دائماً إلى الخبرة الشخصية ومعرفة الأفراد معرفة حقيقية، فهو في الغالب خاضع لتأثير الدعوات التي توجهه يوماً فيوماً، وتنفث سمومها في دمه دون أن يشعر. إنّ الصحافة هي التي تتولّى تنشئة الجمهور سياسيّاً بما تنشر من أخبار وتبثّ من آراء، وليس للدولة يد في توجه الدعوات الصحفية، هذه المدرسة التي يتلقى فيها الجمهور دروسه اليومية، فالصحافة هي في قبضة قوى يواكبها الشؤم. وقد أتيح لي وأنا في فيينا أن أخالط صانعي الآراء وناشريها، فأدهشتني السهولة التي يستطيع بها هؤلاء أن يخلقوا تياراً معيناً وأن يوجّهوا الجمهور وجهة تتعارض في بعض الأحيان مع مصلحة الجماعة. ففي بضعة أيام يمكن للصحف أن تجعل من حادث تافه بحدّ ذاته قضية خطيرة تهزّ الدولة، ويمكنها كذلك أن تسدل ستار النسيان على القضايا الحيوية فلا يلبث الجمهور أن ينساها.. وهكذا كانت الدعوات تُخرِج من العدم أسماء أشخاص لا وزن لهم، وتقدّمهم إلى الرأي العام على أنهم أمل الأمة وتوفّر لهم شعبية لا يحلم بمثلها من يستحقها. وإذا كانت سمعة أحدهم قد لُوّثت في الماضي، فالدعوات الصحفية لا تلقى صعوبة في دفن هذا الماضي".

يعرض هتلر هنا لمؤثر واحد فقط من مؤثرات عديدة تسهم في تغييب الجماهير، وقبل أن نسترسل في تأمّل بعض المؤثرات الأخرى نقف قليلاً عند رأي هتلر الذي يبدو بمثابة كلمة حق أريد بها باطل، فالصحافة هي بالفعل واحدة من الأدوات شديدة التأثير في تشكيل (تغييب؟) الرأي العام، ولكن بتذكّر أن هتلر شرع في كتابة "كفاحه" هذا وهو في السجن عقب محاولة انقلاب فاشلة أقدم عليها أواخر سنة 1923، يتبيّن أن الرجل كان تحت سطوة ظروف قاهرة جعلته حانقاً على كل ما يمكن أن يكون سبباً في أوضاعه السيئة وضعة حظه حينها قياساً بآخرين يراهم أقل منه شأناً وأرفع مكانة، هذا بطبيعة الحال إضافة إلى تأثير الخصوصيات السياسية والفكرية والاجتماعية التي كانت طاغية حينها. لكن الأكثر جدارة بالانتباه هو ما يتبيّن في السطور والفقرات اللاحقة من موضع اقتطافنا، حيث يصف هتلر النظامَ البرلماني/الانتخابي بالعقم ويذهب ببساطة إلى الإقرار بـ"انتفاء الحاجة إليه"، وذلك لصالح نظام "رجل الدولة" إذ يقول: "ولا يعني كون النواب الخمسمائة ممثلي الأمة ومبعوثيها إلى المجلس أنهم صفوة الأمة وخيرة أبنائها... إن الأمم لا تنجب رجل دولة إلا في الأيام المباركة، وما أقلّها، ولا ننسى أن الجمهور يبتعد، بفطرته، عن كل رجل متفوق له قماشة العباقرة، فقد يكون مرور الجمل في ثقب الإبرة أيسر من اكتشاف رجل عظيم بواسطة الانتخابات".

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: العمر الافتراضي للحقيقة.. الفصل الحادي والثلاثون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

هنا – وفيما بعد ذلك من السياق - ينحاز هتلر إلى الحاكم الدكتاتور انحيازاً طاغياً موضحاً أنه يفرض نفسه/حقيقته فرضاً على الجماهير، وهذه ضربة مؤلمة للجماهير من الواضح أن دكتاتور ألمانيا النازية الشهير لم يكن يعبأ بوقعها على الجماهير أيّاً يكن.

بالرغم من كل ما يمكن أن يُرمى به هتلر وكلامه هذا من نقد واتهامات فإن ما به من حقائق نفسية عميقة لا يجب تجاوزه.. وإذا كان متوقعاً أن يتساءل البعض: وما عساها أن تكون تلك الحقائق النفسية العميقة؟ فإن غوستاف لوبون يجيب ببساطة في "سيكولوجية الجماهير"، نقلاً عن ترجمة هاشم صالح العربية عن دار الساقي سنة 2016: "لقد تعرضت الشعوب دائماً لتأثير الأوهام، وذلك منذ فجر البشرية. فهي قد أقامت أكثر المعابد والتماثيل والهياكل لخلّاقي الأوهام ومبدعيها. وكانت في الماضي القديم أوهاماً دينية، ثم أصبحت فلسفية واجتماعية في وقتنا الحاضر. ونحن نجد هؤلاء "الملوك-الأوهام" يتربعون على عرش كل الحضارات التي ازدهرت وتعاقبت على سطح كوكبنا الأرضي".

لوبون بدوره لا يكتفي بذلك، بل يذهب إلى بيان فضل "الأوهام/تغييب الجماهير" على الحضارة البشرية، مستشهداً بمؤلف لا يذكر اسمه: "فلولاها (الأوهام) لما كان (الإنسان) قادراً على الخروج من الهمجية البدائية، ولولاها لسقط في هذه الهمجية من جديد. لا ريب في أنها تمثل ظلالاً عبثية، ولكن بنات أحلامنا هذه قد حثت الشعوب على خلق كل ما يصنع بهاء الفنون وعظمة الحضارات.. كتب أحد المؤلفين ملخصاً عقيدتنا بهذا الخصوص قائلاً: فلو أننا دمرنا كل الأعمال الفنية والنصب التذكارية المستلهمة من قبل الدين والموجودة في المتاحف والمكتبات وجعلناها تتساقط على بلاط الرصيف، فما الذي سيتبقى بعدئذٍ من الأحلام البشرية الكبرى؟ إن سبب وجود الآلهة والأبطال والشعراء أو مبرر هذا الوجود هو خلع بعض الأمل والوهم على حياة البشر الذين لا يمكنهم أن يعيشوا بدونهما. وقد بدا لبعض الوقت أن العلم يضطلع بهذه المهمة. ولكن الشيء الذي حطّ من مكانته في نظر القلوب الجائعة للمثال الأعلى هو أنه لم يعد يجرؤ على توزيع الوعود هنا وهناك، كما أنه لا يعرف أن يكذب بما فيه الكفاية".

يواصل لوبون على ذات النمط من الصراحة الصادمة، بل ربما بما يصعد بحدة المواجهة فيؤكد: "لقد كرّس فلاسفة القرن الماضي جهودهم بكل حماسة لتدمير الأوهام الدينية والسياسية والاجتماعية التي عاش عليها آباؤنا طيلة قرون عديدة.. وهم بتدميرهم لها جعلوا منابع الأمل والخضوع تجف وتنضب. ووراء الأوهام المضحَّى بها كالقرابين وجدوا قوى الطبيعة العمياء التي لا ترحم بالنسبة للضعفاء ولا تعرف الشفقة. وعلى الرغم من كل هذا التقدم الذي تحقق فإن الفلسفة لم تستطع أن تقدّم للشعوب أي مثال أعلى قادر على أن يجذبها ويسحرها. وبما أن الأوهام تشكل ضرورة حتمية بالنسبة لها فإنها تتوجه بالغريزة نحو الخطباء البلاغيين الذين يقدمونها لها كما تتوجه الحشرة نحو الضوء غرائزياً أيضاً. والعامل الكبير لتطور الشعوب ما كان الحقيقة أبداً، وإنما الخطأ".

كلّنا مغيَّب في أية لحظة لسبب أو آخر.. نحن مغيّبون لأن ذاكرتنا قصيرة ومحدودة، أو – بتعبير أكثر دقة – لأن ذاكرتنا انتقائية تحب أن تنسى ما لا يروقها. نحن مغيّبون لأن أيّاً منّا – مهما يبلغ من سعة الإدراك والتحلّي بموهبة تعدد المهام Multitasking - لا يستطيع جمع كل المعارف والمعلومات واستحضارها في نفس الوقت، وبطبيعة الحال يظل اتخاذ ردة الفعل المثالية في كل المواقف مهمة مستحيلة لأنه ليس ثمة ردة فعل ترضي كل الأطراف، ولأنه لا توجد استجابة تخلو من جوانب سلبية. نحن مغيّبون لأننا لا نستقر على "حقيقة" واحدة باستمرار، بل لا نكاد نصبر على موقف بعينه – مهما يكن مدى الاتفاق حوله عظيماً – لأمد طويل.

مهما تبلغ قسوة هذا الاستنتاج/المحصّلة/الخلاصة، فإن العامل الأبرز في تغييبنا كجماهير هو نحن أنفسنا، ليس فقط من خلال خضوعنا السلبي للمفكرين/القادة أصحاب التأثير الطاغي، بل بصورة أساسية – بتعبير لوبون – عبر الاستمتاع باللهاث خلف أولئك القادة/المفكرين كما تبدو الحشرة وهي منجذبة بإصرار نحو الضوء.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])