عمرو منير دهب يكتب: المعلّقون الرياضيّون.. الفصل السادس والعشرون من كتاب "نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً"

كشأن كلّ شيء في كرة القدم وفي الحياة عموماً، مَرّ التعليق الرياضي في العالم العربي بمراحل مختلفة، أو ربما على الأرجح بمرحلتين بارزتين، على الأقل بالنسبة لجيلنا والأجيال التي سبقته بقليل أو تلك التي تلته بفترة وجيزة. المرحلة الأولى هي التي يمكن أن يشار إليها بالتعليق التقليدي الذي كان يَسِم الحياة الإعلامية العربية عموماً، وإنْ ظلّ الإعلام الرياضي بطبيعة مجال الرياضة الحادّ في تنافسيّته متقدّماً بشكل ملحوظ على مجالات الإعلام الأخرى بصفة عامة من حيث الحيوية اللافتة في التقديم، وما يمكن وصفه بـ”الخروج عن النصّ” باقتباس مصطلح المسرح التجاري الرائج، إشارةً في هذا السياق إلى جرأة خروج المعلّقين الرياضيّين الكلاسيكيّين عن الوقار – الزائد عن الحاجة غالباً – في طرح الآراء وحتى نبرة تقديمها إلى المتلقّي.

امتدّت الحقبة التقليدية/الكلاسيكية من عمر التعليق الرياضي العربي حتى السبعينيات والثمانينيات وربما أوائل التسعينيّات من القرن الماضي. وكما هو واضح، فإن الحقبة التالية – التي يمكن وصفها بالحديثة – قد فرضتها طبيعة الانفتاح على الآخر الغربي مع بدايات عصر القنوات الفضائية وظهور وسائل إعلامية خارج نطاق السيطرة المباشرة للأجهزة الرسمية في الدول العربية المحافظة في توجّهاتها بصفة عامة.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: كرة القدم بين الملل والضجيج.. الفصل الخامس والعشرون من كتاب “نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً”

كسر مذيعو الحقبة الجديدة معظم الأنماط السابقة في التعليق الرياضي العربي، لكنّ أظهرَ ما طلعوا به كان الثقافة الإعلامية الرياضية الأعمق من حيث الاطّلاع على تفاصيل مجالاتهم الرياضية – كرة القدم بصفة أساسية كونها مدار حديثنا هذا والرياضة الأوسع شعبية في العالم العربي – واتقان الكثير منهم لغة أجنبية أو أكثر، وما يتبع ذلك من نفحات تلك اللغات الأخرى للمجتمعات الأكثر تقدّماً في النواحي الرياضية والحضارية بصفة عامة. كلّ ذلك لا يعني أن معلّقي الحقبة الكلاسيكية العربية لم يكن من بينهم من يتقن لغة أجنبية أو أكثر ويتمتّع بثقافة رياضية عالمية معتبرة، ولكن حتى تلك الفئة – على ندرتها على الأرجح بطبيعة المرحلة التي ظهرت خلالها – لم تكن الأجواء المحافظة السائدة في المحيط العربي تسمح لها أو تشجّعها على أن تغرّد خارج السرب بما لديها من ثراء لغوي وثقافي قُدِّر له أن يظل كامناً نزولاً على قانون/عرف/موضة ذلك العصر.

مجدداً مع إدواردو غاليانو Eduardo Galeano و”كرة القدم في الشمس والظل”، وتحت عنوان فرعي – “الاختصاصيّون” – يبدو مفعماً بالدلالات في سياقنا هذا، نقرأ: “قبل المباراة يصوغ المراسلون أسئلتهم المربكة: أأنتم مستعدون للربح؟ ويحصلون على أجوبة مذهلة: سنبذل كل ما بوسعنا للفوز. بعد ذلك يأخذ المعلّقون الكلمة. معلّقو التلفاز يتابعون الصور التي تظهر على الشاشة، ولكنّهم يعرفون جيداً أنهم لا يستطيعون منافستها؛ أمّا معلّقو الإذاعة بالمقابل، فهم غير معرّضين لأمراض القلب، ذلك أن معلّمي الحيرة هؤلاء يركضون أكثر من اللاعبين، وأكثر من الكرة نفسها، ويروون بإيقاع دواري وقائع مباراة لا تكون لها في العادة علاقة كبيرة بما يراه أحدنا في الملعب. ففي هذا الشلّال من الكلام تلامس العارضةَ كرةٌ يراها أحدنا تلامس أعالي السماء، ويتعرّض المرمى لخطر هدف وشيك في الوقت الذي تنسج فيه العنكبوت بهدوء شباكها من أحد قائمي المرمى إلى الآخر، وفي الوقت الذي يتثاءب فيه حارس المرمى من الضجر في مرماه”.

في لمحات بلاغية طريفة يستعرض غاليانو ما بين معلّقي التلفزيون ومعلّقي الإذاعة، وما بينهما فارق معروف يختصره المتابعون في المبالغة الواصلة حدّ الخيال (الكذب؟) التي يتّصف بها معلّقو الإذاعة بدافع (بريء؟) يتمثّل في الحرص على جذب المستمعين واستثارة حماسهم لمتابعة متعة بصرية ليس في وسع أعينهم أن تطالها.

ذلك تحديداً هو التحدّي الذي واجه – ولا يزال – مذيعي التلفزيون الذين يعلّقون على ذات المتعة البصرية التي يستمتع بها المشاهدون وليس ثمة ما ينتظرونه من المعلّق على صعيد وصف ما يجري أمامهم. ولكن المعلّقين الرياضيين التلفزيونيين اجتازوا الامتحان بنجاح على كلّ حال، وليس أدلّ على نجاحهم من أن أصوات الجماهير الصاخبة في المدرجات لا تكفي وحدها لإبقاء المشاهدين منجذبين إلى المتعة البصرية التي يشاهدونها، بحيث يظلّ صوت المذيع التلفزيوني وهو يعلّق على ما يشاهده الجميع ضرورة فنيّة لاستكمال المتعة البصرية (والنفسية) بصرف النظر عن المدرسة التي يتّبعها المذيع في التعليق على مجريات المباراة.

عربياً، وبعد أكثر من نصف قرن من التعليق التلفزيوني الرياضي، تبيّن أن المعلّقين الرياضيين العرب لم يجتازوا امتحان التعليق التلفزيوني فقط من خلال التركيز على جوانب تثقيفية أخرى غير النقل الحرفي لأحداث يراها المشاهدون بكل تفاصيلها، وإنّما – إلى ذلك – تضاعف تعلّق الجماهير العربية بهم على الرغم من تبنّيهم مبالغات الأداء الصوتي الإذاعية المتّسمة بالصخب الشديد، وإن يكن صخباً تزينه معلومات ثرية على الصعيدين الرياضي والثقافي بصفة عامة، والأخير تحدّ آخر تجاوزه غير قليل من المعلّقين العرب في عصر المعلومات هذا الذي بإمكان أي مشاهد أن يحصل فيه على أدق الأخبار والتفاصيل الرياضية ببضع كبسات متفرقة على لوحة مفاتيح هاتفه النقّال الافتراضية.

يواصل غاليانو، ربما شاملاً فيما يلي من كلماته المحلّلين الرياضيّين أيضاً: “وعندما تنتهي الجولة المتوترة في أحضان المارد الإسمنتيّ، يأتي دور المعلّقين الرياضيين. وكان هؤلاء المعلّقون قد قاطعوا نقل المباراة عدّة مرات من قبل، لكي يشيروا على اللاعبين ما يتوجّب عليهم عمله، ولكنّ اللاعبين لا يتمكّنون من سماعهم؛ لأنهم منشغلون بارتكاب المخالفات. هؤلاء المنظّرون لخطّة WM ضد MW، هم الشيء نفسه، ولكن بالمقلوب، يستخدمون لغة تُراوح فيها سعة الاطّلاع العلمي بين الدعاية الحربية والنشوة الغنائية. وهم يتكلّمون دائماً بصيغة الجمع؛ لأنهم كثرة”.

يظلّ التحدي الذي يواجه المعلّقين الرياضيين – في أحد جوانبه المهمة – على امتداد العصور الكروية ذا صلة بميول المعلّق التشجيعية بصفة عامة. وعندما يكون فريق المعلّق المفضّل أحدَ الخصمين المتواجهين في مباراة كُلّف بالتعليق عليها، فإن الامتحان لا يكمن حينها في محاولة إخفاء هويّة الفريق الذي يشجّعه المعلّق، قدرَ ما يكمن في ألّا يدع انحيازه العاطفي التلقائي لأحد الفريقين يجعله يخسر أنصاره هو من المتابعين، ذلك أن ولاء المعلّق الرياضي الأول من الحكمة أن يكون للجماهير قبل أن يكون لأي فريق بعينه، وفي الوقت نفسه ليس بالضرورة على حساب فريق بعينه.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])