عمرو منير دهب يكتب: كرة القدم بين الملل والضجيج.. الفصل الخامس والعشرون من كتاب "نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً"

ما أكثر المباريات الرتيبة بما يبعث على السأم، وأكثر منها بطبيعة الحال المباريات التي تتضمن أجزاءً قليلة مثيرة نوعاً ما وأخرى مملة هي الغالبة على عمر المباراة.

إذا جاز وصف تلك الحال بالظاهرة فإنها تشمل بدرجة أو أخرى كل نشاط في الحياة، ولكن مع كرة القدم تحديداً المسألة جديرة بالنظر، فالرياضة الأكثر جماهيرية في العالم ليست النشاط الأكثر إثارة حتى قياساً إلى الأنشطة الرياضة المنافسة وليس على إطلاق المقارنة قياساً إلى أنشطة الحياة الأخرى.

وقد رأينا في أكثر من مقام مضى أن كرة السلة في نظر الجماهير الأمريكية أولى بالمتابعة والشغف لأنها أكثر إثارة، فالأهداف/النقاط تُحرَز في كل دقيقة من عمر المباراة ولا يتمّ عدّها بالجملة في نهاية المواجهة كما في كرة القدم التي كان شائعاً إلى عهد ليس بالبعيد أن ينتهي كثير من مبارياتها بدون أهداف.

نرشح لك: خالد الكمار: وعي الجمهور بالموسيقى التصويرية زاد

بعيداً عن شعبية اللعبة عالمياً، وقياساً إلى الإثارة المتعلقة ابتداءً بتسجيل الأهداف، فإن كرة السلة تبدو بوضوح أكثر حيوية من كرة القدم، ليس في نظر الجماهير الأمريكية فحسب وإنما بالتقييم المطلق المتعلق بالإثارة التي يمكن قياسها ببساطة بتفاعل الجماهير المتواصل على مدى المباراة وهي تتواثب منتشيةً بإحراز الأهداف، وذلك بمنأى من دواعي التعلّق العاطفي – متشعّب ومعقّد الأسباب – الذي يحكم لصالح كرة القدم بالنظر إلى انتشارها العالمي، ليس على حساب كرة السلة وحدها وإنما على حساب سائر الألعاب الرياضية مجتمعة على الأرجح، وذلك كما يمكن قراءته بمقارنة شعبية بطولة كأس العالم بشعبية دروة الألعاب الأولمبية على نحو ما أشرنا في سياق سابق.

الملل هو إحدى مشاكل الوجود الأزلية، حتى إذا كان التعبير المباشر عنه تشكّل حديثاً فقط بملامح واضحة بصورة نسبية، وقد أخذ الإفصاح عن الملل أبعاداً فلسفية أكثر تعقيداً في غضون التعبير عن عبثية الوجود التي تُعدّ مسألة حداثية تماماً. في كتابهما Out of My Skull: The Psychology of Boredom، الصادر في ترجمته العربية عن دار تشكيل بالرياض سنة 2022 بعنوان “رأسي يتصدّع: سيكولوجية الملل”، يقول المؤلفان جيمس دانكيرت James Danckert وجون د. إيستوود John D. Eastwood، نقلاً عن الفيلسوف الروماني سينيكا: “إلى متى ونحن نتعرّض للأشياء ذاتها؟ بالتأكيد سوف أتثاءب، وسوف أنام، وسوف أتناول الطعام، وسوف أعطش، وسوف أشعر بالبرد وبالحر، أليس هناك نهاية لكل ذلك؟ ولكن هل تسير كل الأشياء في دائرة؟ الليل يتعاقب مع النهار، والخريف يتبع الصيف، والشتاء يحث الخريف على الرحيل، ثم يتلوه الربيع. وتمرّ كافة الأشياء بطريقة تشي بأنها سوف تعود.

لا أفعل أي جديد، ولا أرى أي جديد. يصيبني هذا أحياناً بالغثيان، وهناك الكثيرون ممن يرون أن العيش في هذه الحياة ليس مؤلماً، ولكنه فارغ”.

وقدّ عبّرتُ أكثر من مرة على صعيد تناول موضوع/مشكلة السعادة – مع الانتباه إلى شدة تعقيد الموضوع والتخبّط الذي يكتنف تناوله من حيث عدم القدرة في كثير من الأحيان على الإمساك بالسؤال الدقيق وتأمّله قبل التهليل توهّماً بالوقوع على إجابة شافية – بأن آفة السعادة الأساسية ليست التعاسة أو الحزن أو الاكتئاب وإنما الملل.

وإذا كان مشجّعو الكرة المتعصّبون ينطلقون إلى كل مباراة بحماس طاغٍ ويرى معظمهم في اضطلاعه بدور أساس لقيادة فريقه نحو النصر تعويضاً عن أيٍّ من تجلّيات الفشل والانهزام في الحياة الشخصية، كما رأينا مع إدواردو غاليانو في مقام قريب، فإن غير قليل من المشجعين الآخرين الأقل حماساً يدلف إلى متابعة المباريات فقط من باب الهروب من الضجر الذي يطوّق روتينه اليومي.

ولكن هل يجد هذا الصنف الأخير من المشجعين في الكرة بغيته من علاج الضجر؟ نعم لا ريب، ولكن – للدقة – مع ملاحظة أن الكرة هنا ليست علاجاً وإنما مسكّناً للضجر الذي يكاد يكون قاتلاً، وبحسب ما يمكن استنباطه من كلمات سينيكا السابقة فإن آلام الحياة (المادية على الأرجح) أهون من وطأة الإحساس بالفراغ/الملل الذي يلفّ وجودنا.

الكرة إذن، سواء مع مشجّع عابر أو آخر متعصّب، مُسكّنٌ وليست علاجاً للملل؛ وهذه ليست نقيصة في متعة كرة القدم وإنما سمة تطال كل ما نتداوله لمواجهة الملل من أنشطة مادية وروحانية في الحياة؛ الملل الذي يبدو والحال كتلك كما لو كان حوتاً ضخماً قادراً على ابتلاع/افتراس كل علاج يتم ترويجه توهّماً أنه بعيد/طويل الأمد من حيث تأثيره في القضاء على الملل.

مهما يكن، تُقدِّم كرة القدم إذن تلك المتعة الفريدة القادرة على تبديد الملل بدرجات متفاوتة لعشاقها على تفاوتهم بدورهم من حيث قوة الانجذاب لها وشدّة التعلّق بها، ذلك على الرغم من أن مباريات كرة القدم نفسها لا تخلو من الملل على نحو ما فصّلنا أوّل هذا المقال.

تعتمد جماهير الكرة بدرجة عالية على الجلبة/الضجيج في استثارة الحماس، حماس اللاعبين وحماسهما – الجماهير – أنفسها. في كتابه الصادر في ترجمته العربية ضمن مشروع “كلمة” بهيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي سنة 2016 بعنوان “الضجيج: تاريخ إنساني للصوت والإصغاء”، الأصل الإنجليزي Noise: A Human History of Sound and Listening، وفي الفصل التاسع تحت عنوان “جلبة الجماهير”، يقول ديفيد هندي David Hendy: “كان من المستحيل خلال دورة الألعاب الأولمبية وأولمبياد المعاقين في لندن عام 2012 ألّا تلاحظ أن الرياضيين ومعلّقي التلفاز، والمشاهدين كذلك، يذكرون دائماً صوت الجماهير في حديثهم. وظلّ اللاعبون لا سيما المحلّيّين في الملعب الرئيس، الفيلودروم ومركز الألعاب المائية، يعبّرون عن دهشتهم من الضجيج الانفعالي الإنساني في هدير الهتافات المرتفعة الهائلة التي كانت تدفعهم إلى الفوز”.

يُكمل المؤلف: “قال بعض اللاعبين من بلدان أخرى أيضاً إنهم شعروا ببعض الخوف أحياناً، كما ظهرت لحظات خارج هذا السياق، ولكنها لا تُنسى، عندما تحوّل الجمهور ضد شخص يظهر استياءه منه جهاراً. على سبيل المثال، رُفعت صيحات استهجان ضد وزير الخزانة جورج أزبُرن بينما كان ينتظر تسليم الميداليات في الملعب الأولمبيّ، ربما لسياساته وربما ببساطة لأنه سياسي.

على أيّ حال، لقد تعلم (بـ)الطريقة الصعبة أنه حتى خلال أولمبياد المعاقين، فالملعب الممتلئ بالناس يطلق صوتاً أكثر من مجرّد العاطفة الرياضية. في هذا المرجل الصوتي المركز، تختلط جميع أنواع المشاعر وتتعالى، ويعبِّر الناس عن آرائهم بالضجيج دون الحاجة بالضرورة للقيام بفعل ما”.

ليست المتعة المتّزنة إذن ولا حتى الحماس المتعقّل، وأرجو أن يجوز التعبير، بل الضجيج المنفلت هو على الأرجح ما يمنح كرة القدم – وسائر الألعاب الرياضية – بهجتها إذ يكسر أقسى جدران الملل التي تعترض حياة الجماهير، ولو لأوقات عابرة على الأقل، قبل أن يعود الملل فيُنشئ جدرانه من جديد في انتظار لحظات أخرى هادرة من الضجيج تدكّها، وهلمّ جرّاً.