عمرو منير دهب يكتب: تحدّي الموضوعية في أحكامنا الكروية.. الفصل الثالث والعشرون من كتاب "نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً"

الموضوعية تحدٍّ على كل صعيد في حياتنا اليومية وليس في كرة القدم وأحكامنا عليها فحسب؛ والأحكام المطلقة مستحيلة ليس فقط لأن آراءنا تختلف بطبيعة الحال حول السلع والأفكار والمشاعر التي نجد أنفسنا مندفعين للاستجابة إليها بفعل هذا المؤثّر أو ذاك، ولكنّ آراءنا واستجاباتنا تختلف إلى حد التناقض أحياناً لأن ما نظنّه حقائق يتغيّر باستمرار حتى من وجهة نظرنا الشخصية على غير ما نلاحظ في معظم الأحيان.

إلى ذلك، يكمن تحدّي الموضوعية بصورة موازية في التعريف نفسه، تعريف الموضوعية. مَن قال بأن الموضوعية تعني الاطّراح الكامل للمشاعر جانباً؟ حسناً، الكل تقريباً يقول ذلك، وهو قول لا يخلو من الحكمة لكنه ليس صحيحاً تماماً، فمشاعرنا أداة لضبط جفاف أحكام عقولنا الصارمة تماماً مثلما أن عقولنا لجام لكبح اندفاعات مشاعرنا الجامحة. وربما كان الأجدر بالملاحظة في هذا السياق أن مشاعرنا تنسرب إلى أحكامنا التي نظنّها عقلانية خالصة دون أن نحسّ بذلك الانسراب، أو – للدقة – تنسرب مشاعرنا ونحن ندّعي أننا لا نلاحظ ذلك، والواقع أننا نخفي مشاعرنا التي تغلّف أحكامنا “الموضوعية” في غضون الحيثيات العقلانية التي نغلّف بها تلك الأحكام. والحال كتلك، ليس غريباً إذن أن تكون الموضوعية نفسها المشكلة وهي تبدو مراوغة ربما بذات المستوى الذي نبدو به نحن مراوغين إزاءها.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: تحدّي الحياد في التشجيع.. الفصل الثاني والعشرون من كتاب “نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً”

في كتاب “التشويش: خلل في أحكامنا” الصادر عن الدار العربية للعلوم ببيروت سنة 2021، ترجمة للأصل الإنجليزي Noise: A Flaw in Human Judgment من تأليف دانيال كانمان Daniel Kahneman وأوليفيه سيبوني Oliver Sibony وكاس ر. سونستين Cass R. Sunstein، نقرأ: “من غير المقبول أن ينتهي الأمر بأشخاص مماثلين، أدينوا بارتكاب الجريمة نفسها، إلى أحكام متباينة تبايناً كبيراً، على سبيل المثال السجن لمدة خمس سنوات لأحدهما وإطلاق السراح المشروط للآخر. ومع ذلك، يحدث شيء من هذا القبيل في العديد من الأماكن”. بعدها يلخّص المؤلفون الموضوع الرئيس للكتاب في الجملة التالية: “حيثما كان هناك حكم، هناك تشويش، وفوق ما تعتقد”.

يتناول الكتابُ التشويشَ بقدر واضح من التحديد والدقة فيما يتعلق بتعريف المراد من المصطلح، وذلك بطبيعة الدراسة الأكاديمية العميقة التي يعرضها الكتاب، وإن يكن ما يهمّنا في سياقنا هذا هو استعراض التحديات التي تواجه الموضوعية المزعومة المرتجاة في أحكامنا على وجه العموم، ومن ثمّ الكروية منها بصفة خاصة. في الجزء الخامس من الكتاب تحت عنوان “تحسين جودة الأحكام” يقول المؤلفون: “يحكم العديد من الأفراد على المشكلات نفسها. التشويش هو التباين في هذه الأحكام. ستكون هناك حالات يمكن أن يُعزى فيها هذا التباين إلى عدم الكفاءة. يتحدّث بعض القضاة عن معرفة، أمّا بعضهم الآخر فلا. عندما تكون هناك فجوة في المهارات (إمّا بوجه عام أو في أنواع معيّنة من الحالات)، ينبغي أن تكون الأولوية بالطبع لتحسين المهارات الناقصة. ولكن، كما رأينا، يمكن أن يكون هناك قدر كبير من التشويش حتى في أحكام الخبراء ذوي الكفاءة والمدرَّبين تدريباً جيّداً”.

يواصل المؤلّفون: “من الطرق المعقولة لتحسين جودة الأحكام، بالطبع، انتقاء أفضل ما يمكن من القضاة الحقيقيين. في ميدان الرماية، يمتلك بعض الرماة القدرة على التصويب الجيّد بوجه خاص. وينطبق الأمر نفسه على أي مهمّة احترافية للحكم: سيكون الأكثر مهارة أقلّ تشويشاً وأقلّ تحيّزاً. إنّ كيفية العثور على أفضل القضاة تكون في بعض الأحيان بديهية؛ إذا كنت ترغب في حل مشكلة شطرنج، اسأل معلّم الشطرنج وليس مؤلفي هذا الكتاب. ولكن في معظم المشكلات، يصعب تمييز خصائص القضاة المتفوّقين”.

ورغم أن الكتاب يتعرّض كذلك للتحيّزات النفسية ويَعِدُ مؤلفوه بتقديم “استراتيجيات إزالة التحيّز” قائلين: “نقترح نهجاً واعداً لم يُستكشف، على حدّ علمنا، بصورة منهجية”، فإنّ كل ذلك لا يكفي لضمان الظفر باختراق علمي يكفل تجاوز تحدّي الموضوعية في أحكامنا، لا نقول بنجاح كبير وإنما بأي قدر يُتّفق عليه من النجاح. فإذا كان التشويش مشكلة يمكن إلى حدّ ما – أو حتى بدرجة كبيرة – معالجتها، فإن التحيّزات (سواء الشخصية بدافع المصلحة أو النفسية التي تنسرب إلى أحكامنا منفلتة من إدراك وعينا) إنّما هي بمثابة تحدّي الموضوعية الذي لا سبيل إلى تجاوزه إلّا بالالتفاف عليه عن طريق التبرير لأحكامنا المتحيّزة بهذا المسوّغ أو ذاك.

بإسقاط ما سبق على كرة القدم لا نرى اختلافاً في الأمر قدرَ ما هي خصوصية تفرضها طبيعة اللعبة وعالمها موضوع الحكم. بصفة عامة، كلٌّ يتحيّز إلى ناديه ومنتخب بلاده وإلى عصره الذي تفتّح فيه وعيه على اللعبة، فضلاً عن التحيّزات الأخرى مثل تفضيل أسلوب لعب بعينه. هذا، وكلّما أوغلنا في التاريخ ازدادت المسألة تعقيداً، فالكبار ينظرون إلى قدامى اللاعبين على أنهم الأفضل، في حين يكاد يسقط أولئك الأقدمون تماماً من حساب الشباب لدى إجابتهم على السؤال: من هو اللاعب الأفضل في تاريخ كرة القدم؟

إجابات اللاعبين النجوم أنفسهم تسفر عن انحيازات لا يخطئها متابع، بل ربما كان النجوم من اللاعبين هم الأكثر عرضة للانحياز كونهم يحكمون على زملاء حِرْفتهم نفسها. بحسب تقارير ولقاءات واستطلاعات متفرقة، نجد أن أساطير اللعبة إمّا منحازون للاعب من نفس البلد أو لنجم صديق من نفس الجيل: بيكنباور يرى أن بيليه هو الأفضل حيث افتتن بأسلوبه حين لعبا معاً لنادي نيويورك كوزموس؛ وبلاتيني يرى أن مارادونا هو الأفضل، ومعلوم أن اللاعبَين تعاصرا في الملاعب وكانت تربطهما صلة قوية على المستوى الشخصي؛ أمّا روبرتو كارلوس فيرى أن الأفضل هو رونالدو نازاريو (الظاهرة)، وقد لعب كلا روبرتو ورونالدو معاً لنادي ريال مدريد كما تعاصرا بطبيعة الحال في منتخب البرازيل.

بعيداً عن تمجيدات الجماهير العاطفية وما يقدّمه المحلّلون الرياضيون على أنه أحكام “موضوعية”، ثمة من اللاعبين من يكون أثره بالفعل عظيماً إلى درجة أنّ خروجه من الفريق يؤدي إلى تقهقر مستوى الفريق وتدهور نتائجه، في حين يصنع وجودُ ذلك اللاعب إنجازات لم تكن ممكنة بدونه. في كل الأحوال، لا يجب أن يدفعنا الحماس إلى اختصار الفريق في لاعب بعينه مهما يكن استثنائياً، ولكنْ غيرُ قليل من المتابعين ينجرف بعيداً عن الموضوعية إلى حدّ أنه يكاد يختصر اللعبة بأسرها لا فريقاً بعينه في الأسطورة التي يعشقها، وهذا – ربما على عكس ما نظن – أهون أنواع التحيّزات لأنه يفضح نفسه بسهولة.

في سياق المقارنات التي يتصاعد معها تحدّي الموضوعية، أجد نفسي أميل إلى ترجيح كفة بيليه في السباق على لقب الأفضل في تاريخ كرة القدم. من يشاهد بيليه يراوغ ويسجّل الأهداف يظن أنه كمن يلعب مع فريق هارلم غلوبتروترز لكرة السلة الذي يقدّم مبارياته الاستعراضية أمام خصم مصطنع مهمّته في الملعب تمثيلية محضة للسماح لمهارات هارلم الفائقة بالتدفّق في سلاسة. وعلى الرغم من أن انحيازي لبيليه لا يعدم دواعيَ فنية وحججاً منطقية أراها قوية، ربما ذكرت كثيراً منها – أو بعضها على الأقل – في مقالات سابقة، فإنني أبادر إلى الاعتراف بأن ذلك الانحياز مغلّف بصورة موازية بدواعٍ عاطفية ليس بالنسبة لي فحسب وإنما لكثير من أبناء جيلنا. تتقدّم تلك الدواعي العاطفية خصوصيةُ البرازيل السمراء التي ينتمي إليها بيليه وفتنتُها الكروية التي تتجلى في طريقة لعبها المهاريّة، ما جعلها تعتلي عرش كرة القدم على حساب دول العالم الأول في كثير من المناسبات وبمجمل الإنجازات التي أهمها احتكار لقب الفريق الأكثر فوزاً بكأس العالم لعقود، إضافة إلى تنسّمها مراكز متقدّمة باستمرار (الأولى لأوقات طويلة) في تصنيف الفيفا لمنتخبات الرجال لكرة القدم.

هل كان من الممكن للموضوعية في أحكامي الكروية أن تفرز قراراً أفضل من ذلك الذي اتخذته لدى اختياري بيليه ومنتخب بلاده بوصفهما الأفضل مجملاً على مرّ عصور كرة القدم؟ بالطبع لا، لأننا عادةً نُنزل الموضوعية على أحكام ميولنا وأهوائنا بدرجة أو بأخرى وليس العكس، وذلك على نحو ما عرضنا بقدر من التركيز في هذا المقال.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])