عمرو منير دهب يكتب: تحدّي الحياد في التشجيع.. الفصل الثاني والعشرون من كتاب "نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً"

قبل أن نبحث في مسألة تحدّي الحياد في التشجيع، ربما يكون من الطريف أن نتطرّق بصورة عابرة إلى الحديث عن تعمّد المكايدة في التشجيع، والتشجيع أصلاً يقوم في جانب أساسي منه على المكايدة، مكايدة الخصوم الذين من دونهم لا سبيل إلى الشعور بنشوة الفوز الغامرة. وفي التشجيع، من الطبيعي أن يكون بعض – أو ربما كثير من – الخصوم من أقرب الأقربين، فمن النادر أن يتّفق جميع أفراد الأسرة على مساندة نادٍ رياضي بعينه، أمّا أن يحدث هذا مع جميع زملاء العمل أو كل رفاق الحيّ فذلك هو ما يشبه المستحيل أو لعله المستحيل بعينه. ولعلّ حماسة التشجيع ولذة المكايدة تتضاعف أضعافاً كثيرة بسبب أولئك الخصوم المقربين أكثر من غيرهم ممن تربطنا معهم علاقات واهية أو عابرة لا تسمح لنا بالذهاب معهم في المغالطة والمكايدة إلى أقصى ما نستطيع من الحدود كما هي الفطرة في عالم التشجيع الرياضي، ومع كرة القدم على وجه الخصوص.

يشيع لدى المتابعين من عشاق كرة القدم الحالية أن ابن كريستيانو رونالدو الأكبر يتخذ من ميسي – وليس والده – قدوة له، وفي المقابل يُقال إن أحد أبناء ميسي يشجّع الفريق الخصم لنادي والده باستمرار، وكذلك قيل عن أحد أبناء ديفيد بيكام (لعله روميو) على صعيد المكايدة المباشرة في تشجيع خصم الوالد ليصبح الوالد بذلك خصماً بدوره. ينظر الناس إلى تلك المسألة باعتبارها غريبة، والواقع أنها ليست كذلك.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: كرة القدم والولاء الوطني.. الفصل الحادي والعشرون من كتاب “نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً”

ليس في عالم كرة القدم وحده وإنما على كل صعيد، مَن قال بأن الأبناء يتّخذون ميول آبائهم وخياراتهم على أنها الأفضل؟ ربما يحدث ذلك في الطفولة الباكرة، لكن العكس قابل للحدوث – وبقوة – عندما يشبّ الأبناء عن طوق الامتثال وتصبح لهم شخصيّاتهم الخاصة فتتفرّق الأهواء، أو – للدقة – تتكشّف الميول على حقيقتها؛ ومن الطبيعي ألّا يكون كل ابن نسخة من أبيه. هذا فضلاً عن غير ذلك من التفسيرات المحتملة والخاصة بكل حالة على حدة، فقد يتعمّد بعض الأبناء – خاصة في بعض مراحل الطفولة اللاحقة – مكايدة الآباء من أجل الحصول على مساحة أكبر من الانتباه وحصّة أوفر من الاهتمام أو إظهاراً لعاطفتهم القوية تجاه الآباء ولكن بنقيض ما يُفترَض أن يكون عليه الإظهار المباشر للمشاعر تجاه من نحبّهم، والأخير ليس بالأمر الغريب بتتبّع دقائقنا النفسية كما يترصّدها ويلتقطها الخبراء، سواء من المحنّكين في فك شفرات المشاعر الإنسانية الملتبسة أو من خبراء علوم النفس المتمرّسين.

بالانتقال إلى حالة مقابلة، ليست بعدُ مع تحدّي الحياد في التشجيع وإنما مع التعصّب فيه، نقرأ وصفاً بليغاً لحالة ودوافع المشجع المتعصب من قِبل الكاتب الأوروغواياني المولع بكرة القدم وأدبها إدواردو غاليانو Eduardo Galeano في كتابه “كرة القدم في الشمس والظل” الذي اقتطفنا عنه مراراً: “المتعصب هو المشجّع في مستشفى المجانين؛ فنزوة رفض ما هو جليّ أغرقت العقل، وكل ما يشبهه، وتمضي مع التيار بقايا الغريق في هذه المياه التي تغلي، وهي هائجة على الدوام بغضب لا هدنة فيه. يصل المتعصّب إلى الملعب ملتحفاً راية ناديه، ووجهه مطليٌّ بألوان القميص المعبود، مسلّحاً بأدوات مقعقعة وحادة، وبينما هو في الطريق، يكون قد بدأ بإثارة الكثير من الصخب والشجار. وهو لا يأتي وحده على الإطلاق؛ فوسْط السبيكة الباسلة، أم أربع وأربعين الخطرة، يتحوّل الخائف إلى مخيف، والمهان إلى مهين للآخرين. القوة الكليّة في يوم الأحد تخالف حياة الإذعان في بقية الأسبوع، والفراش بدون رغبة، والوظيفة بدون ميل، أو اللاوظيفة؛ فيكون لدى المتعصّب الكثير من الثارات حين يتحرّر يوماً كل أسبوع”.

يواصل غاليانو البليغ عن المشجع المتعصّب: “إنه ينظر إلى المباراة، وهو في حالة الصرع تلك، ولكنه لا يراها، فما يهمّه هو المدرجات؛ لأن ميدان معركته في المدرجات، ومجرد وجود مشجّع للنادي الآخر يشكّل استفزازاً لا يمكن للمتعصّب أن يتقبّله. الخير ليس عنيفاً، ولكن الشر يجبره على ذلك. والعدو دائماً مذنب، ويستحق لوي عنقه. ولا يمكن للمتعصّب أن يسهو؛ لأن العدوّ يترصّد في كل مكان، فقد يكون ضمن المشاهدين الصامتين أيضاً، وقد تصل به الوقاحة (المشاهد الصامت) في أي لحظة إلى إبداء رأيه بأن فريق الخصم يلعب لعباً صحيحاً، وعندئذٍ يحصل على ما يستحقّه”.

ماذا إذن عن تحدّي الحياد في التشجيع الذي أرجأنا الحديث عنه حتى هذه اللحظة من المقال؟ هل يمكن للبعض بالفعل أن يظل صامداً على مبدأ/نزعة تشجيع “اللعبة الحلوة”، ليس طوال تجربته في متابعة مباريات كرة القدم بل حتى لمباراة واحدة على الأقل؟ أجيب مباشرة: من الصعب أن يحدث ذلك، والأرجح – بتأمّل النزعات النفسية لبني آدم وانحيازاتهم الفطرية على وجه التحديد – أن ذلك مستحيل.

لا ريب أن الناس متفاوتون في انفعالاتهم وحدّة ردّات الفعل التي يبدونها تجاه هذا الموقف وذاك، ولكن مهما يبلغ الانضباط في السلوك والهدوء التلقائي اللذان يتمتّع بهما البعض خلال متابعة إحدى المباريات – سواء لأن طرفي المباراة لا يعنيانه في شيء أو لعدم الاهتمام باللعبة أساساً أو لغير ذلك من الأسباب – فإن ميلاً فطرياً بدافع أيٍّ من خفايا العقل الباطن يحثّه على الانجذاب إلى أحد الفريقين والميل بدرجة ما إلى الشعور بالفرح أو على الأقل الارتياح لفوز ذلك الفريق.

إلى هذا، في الحالات التي يجد فيها المشجع أن طرفي المباراة لا يعنيانه في الكثير، وبالأخص لدى أنصار “اللعبة الحلوة” من المشجعين فاتري الحماس، فإن مسألة التشجيع عادةً ما تتّسم بالتقلّب وليس الثبات. فمن الشائع في تلك الحالات أن ينقلب وضع المشجع “المحايد” أثناء المباراة – بتأثير موقف بعينه في الغالب – من مجرّد “الحياد” (الظاهري على الأقل) إلى الانحياز إلى أحد الفريقين، أو من الميل الخفيف والعارض لأحد الفريقين ابتداءً إلى تأييد الفريق الآخر وإنْ بذات الدرجة من الفتور النسبي.

الحياد تحدٍّ لا سبيل إلى الصمود عليه صموداً كليّاً أو حتى جزئيّاً إذا كان مناط الحكم هو تتبّع نوازعنا النفسية الدقيقة وانفعالاتنا المكتومة وليس ما نسعى إلى تقديمه إلى الآخرين بعد التعديل والتلطيف من تجليّات مشاعرنا واستجاباتنا. ذلك على الأرجح مما يرقى إلى مستوى “الحقائق النفسية”، سواءٌ مع مسألة تبدو ثانوية وهيّنة ككرة القدم، أو عندما يتعلّق تحديد المواقف بأمر جلل كحرب طرفا صراعها لا يمتّان إلى المتابع بصلة قريبة أو حتى بعيدة سوى ما يجمع البشر ويساوي بينهم بصفة عامة على صعيد المشاعر والاستجابات النفسية.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])