عبد الرحمن جاسم يكتب: عن الكلشيهات وماذا تريد الدراما أن تقوله

“إن الحكاية -أيُ حكاية- كي تعمّر طويلا ويسمعها كُثُرْ، يجب أن يتوفر لها ثلاث أمور: أذنٌ جيدة، فكرة حصيفة، تفتح آفاقاً للتفكير، وفوق كل هذا طائرٌ مغرّد يجيد الغناء”.  عبد الرحمن جاسم

أوفيليا إبنة يوليوس من مسرحية هاملت لشكسبير

في موسمٍ درامي مزدحم، يأتي أهم سؤال وأكثرها بلاغة: ماذا تريد الدراما أن تقول؟ هل فعلاً هناك “رسالة” خلف ما تقوم بهذه المسلسلات؟ أم أنها ببساطة عبارة عن تسلية يحتاجها المشاهد إبعاداً عن “غم” حياته وتعبها؟ تسعى بعض المسلسلات إلى المزج بين الفكرتين، ولكن مع “تخليق” جو يجمع بين “القضايا الكبرى” و”التسلية” في آنٍ معاً.

نرشح لك: عبد الرحمن جاسم يكتب: في حكمة السيتكوم.. عن مسلسلات الـ 15 حلقة

يتناول مسلسل “النار بالنار“(كتابة رامي كوسا وإخراج محمد عبد العزيز)، المسلسل اللبناني والذي أنتجته شركة “الصبّاح”،”طقماً” من القضايا التي فعلياً تحتاج إلى عشر مسلسلات لتناولها، فمن العنف ضد المرأة، إلى العنصرية، إلى “المعارك والصراعات” التي تؤدي لحروب أهلية، إلى انكسار الأيديولوجيات، إلى العلاقات العائلية الفاشلة والمتكسّرة، إلى نقاش اللجوء السوري إلى لبنان، والتدخل العسكري السوري فيه منذ الحرب الأهلية إلخ إلخ إلخ.

باختصار يمتلئ المسلسل بكل ما يمكن للمشاهد أن يتخيله أو لايتخيله حتّى من القضايا الاجتماعية. فعلياً يمكن القول أنَّ النص الذي كتبه رامي كوسا –وسرعان ما تنصل منه تحت حجج مختلفة وعلى صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي- جمع كل ما يمكن أن يفكر فيه إنسان كقضية إجتماعية. هل يمكن ذلك في عملٍ واحد؟ هل يتسع عملٌ من ثلاثين حلقة لكل هذه القضايا؟ بالتأكيد أجل إذا كان الهدف هو “جمع” هذه القضايا وتناولها بشكل مسطّح، أما إذا كان الهدف هو إيجاد حلول لها، أو عرضها بشكل يسهّل إيجاد طرق لتلافيها أو القضاء عليها بحال كانت مؤذية، فإن ذلك غير ممكن، والإجابة هي “لا”.

المسلسل الذي يعاني كعادة مسلسلات “عبر العربية” -والتي –لحسن حظنا انقرضت وبحسب الظاهر لن تقوم لها قائمة- من المزج بين ممثلين من مدارس إدائية مختلفة، كالممثلين السوريين والممثلين اللبنانيين. يعرف الجميع بأن مدارس الإداء في العالم العربي مختلفة، وهذا أمرٌ جميل وجيد، ويعطي مساحة للمؤدين أن يختلفوا فيعطون بذلك مساحة للمشاهد بإختيار ما يحبه ويفضّله.

وهذا أمرٌ صحي، لكن بعض المدارس تتفوّق على سواها وعداها بالخبرة، التمرين، المراس وبالتأكيد المراقبة والنقد: وهذا بعض ما عند المدرستين المصرية والسورية الدرامية.

على العكس من هؤلاء لايوجد أي رقابة “نقدية” أو “توجيهية” للممثلين اللبنانيين تجعلهم “يتوقفون” إذا ما كان إدائهم “سيئاً” أو يمارسون خطأً من أي نوع. مثلاً جورج خبّاز، أحد الوجوه الإدائية المعروفة في لبنان، لم يغيّر “شكله” منذ بداية ظهوره مسرحياً أو تلفزيونياً، حتى إن أحد متابعيه كتب له على الفيسبوك: “لو سمحت غيّر النظارة”. فعلياً لم يفعل خبّاز ذلك، في أيٍ من أدواره، إنه يمارس دور “جورج خبّاز” في أيٍ من أعماله.

هذا الأمر ينسحب على معظم الممثلين اللبنانيين والذي لايعانون من قلة مواهب البتة، ولكنهم يعانون من “كسل” جاء من أنَّ “المنتجين” يوفرون لهم الأعمال حتى ولو كان إدائهم هكذا.

بالعودة لفكرة المقال: يتناول المسلسل الصراع بين عزيز(جورج خبّاز) –السجين السابق- والذي يمارس عنصرية وفوقية “فارغة” ضد “مريم”(كاريس بشّار) اللاجئة السورية التي تعيش في لبنان بعد “لجوئها” إبان الحرب السورية. هنا سيعتقد المشاهد أنه سيكون أمام “تحليل/تفريغ” نقاشي سيقودنا إما “لحل” هذه المشكلة ولو حتى “درامياً” أو حتى “تعرية” لهذا السلوك من كل النواحي.

باختصار يستحضر المسلسل كل أنواع “الكليشيهات” في هذه القضية: من الصراخ والصوت المرتفع إلى الجمل المفتوحة “إنتو أخدتوا كل شيء” “انتو سرقتوا بلادنا” “روحوا على بلدكم”، عزيز يقول لمريم بالحرف في فيديو انتشر كثيراً: “ماضيكم معنا بشع وحاضركم أبشع، نحنا بعتنا وراكم على أساس قوات ردع عربية، صار بده مين يردعكم”.

وللحقيقة من يقرأ تاريخ لبنان وسوريا الحديثين يعرف بأنَّ وجود “الطبقة العاملة” السورية في لبنان هو جزءٌ لا يتجزأ من كينونة لبنان الأصلية؛ وإن العلاقات بين لبنان وسوريا لم تكن يوماً قائمة على “حدود” مصطنعة، فلبنان وسوريا مثلاً امتلاكا بنكاً واحداً، وطبيعة السكان مثلاً هي واحدة تقريباً: فسكان منطقة البقاع القريبون من الحدود السورية لديهم ذات طباع أهل سورية، وسكان طرابلس في شمال لبنان لديهم نفس طباع سكان “حمص” في سوريا، وهكذا.

بالتالي كان من المفترض أن يظهر المسلسل هذه التفاصيل والتي تجعل الأمر قابلاً للحديث بشكلٍ أعمق، لم يفعل المسلسل ذلك نهائياً بل نقل “كليشيهات” وجمل تتناقل حرفياً بين “أناسٍ لم يعيشوا تلك المرحلة قبل سنواتٍ طوال”. المشكلة أن المسلسل بدلاً من أن يشارك في حل المشكلة قاربها كما لو أنها “هذا هو الشكل الطبيعي للأشياء”، و”هذه هي العلاقة بين هؤلاء الناس” وعليهم تقبّل الأمر. وهنا بدلاً من اللعب على فكرة “التصحيح” و”التفريغ” وصلنا إلى مرحلة القبول بالمصيبة فحسب.

اللافت في الأمر والأكثر حزناً “التسطيح” في إيجاد حلول للمشكلة: فكلا الطرفين يقعان في حب الآخر: عزيز ومريم يقعان في حب بعضهما. إلى هذا الحد من “التسخيف” وصل الأمر بالمسلسل. بالمنطق الطبيعي، وبالمنطق الصراعي، وبمنطق الأضداد حتى لا يمكن لهذا الأمر الحدوث إلا في مسلسل “عربي متخيل” أما في الواقع، فإن الأمر مستبعد الحدوث، إذ إنه حتى الحب والزواج والعلاقات البشرية المركبة سرعان ما ينتهي “المشتهى” فيها ويبقى الواقع: وبالتالي فإن أساسات الصراع الموجودة ستعيده أقوى مما كان.

المعنى: بعد أن ينتهي “هوس الحب” سيكون أمام العاشقان “واقعهما” عينه، فكيف يستطيعان الحياة مع “قناعاتهما” الثابتة والدائمة؟ خلال الحرب اللبنانية تزوج كثيرون وكثيرات من “مناقضين” لهم/لهن في الأفكار والقناعات وحتى الانتماءات والأديان والجنسيات: كانت النتيجة مآس لا تنتهي خصوصاً مع أولادٍ شوهوا بين والدين يكرهان بعضهما كرهاً عميقاً. إذا إن “كليشيه” الحب “يحل كل المشاكل”، ليش كليشيهاً مزعجاً فحسب، بل هو كليشيه تافه لأسبابٍ كثيرة وغير قابل للتحقق إلا كما أشرنا في مسلسل عربي من هذا النوع.

المشكلة ليست فعلاً في محاولة الدراما أن تقول شيئاً، المشكلة في أنّها حينما تقول شيئاً هل تزيد الأمر سوءاً خصوصاً مع “التسطيح” و”التسخيف” والعمل القائم على “كليشيهات” لا تشبع ولا تحل أياً من إشكاليات.

نرشح لك: عبد الرحمن جاسم يكتب: في حب محمد سلام