أشرف أبو الخير يكتب : تاه في الزحمة (4) فن النحت

قبل سنوات ليست بالطويلة، عاصر معظمنا الإعلام المصري وهو يقود القاطرة الإعلامية العربية، ببرامج لها محتوى واضح جذاب، بمذيعين ومذيعات كانوا على قدر عالٍ من الثقافة واللباقة والاحترافية، بفنيين وتقنيين صنعوا مجداً لا يمكن محوه بمصر، وكرروا إنجازهم هذا في (معظم) المحطات التلفزيونية والإذاعية العربية الخاص منها والحكومي.. ولأنه لا شئ يأتي بغتة إلا الموت، فقد عشنا سوياً لحظات انهيار الإعلام المصري (المرئي والمسموع)، بشكل تدريجي، ممنهج، منظم، حتى يظن الخبثاء أن هذا الانهيار، مقصود.

ولأننا لسنا بخبثاء، ونؤمن بان بعض الظن إثم، فنحن هنا نحلل شيئاً فشيئاً .. لماذا ينهار الإعلام المصري ويتقزم مقابل الكيانات الإعلامية العربية والغربية؟؟!! .. لماذا أصبحنا نحترف الاستسهال والإسفاف ونتبنى في كثير من الأحيان الخرافات وتوافه الأمور.. لماذا تاه إعلامنا في الزحام؟!!

وأزعم أن ابرز أسباب التراجع والتقهقر هي ببساطة ممارسة معظم العاملين بالسوق الإعلامي الواسع “فن النحت”.

وللتفصيل نقول:

“النحتاية .. تنحتها ، متشتغلهاش .. معروفة !!”

هكذا لخص لي زميلي (أ.ز) قبل سنوات فلسفة معظمنا (ولا أستثني نفسي) التي نراها جزءاً رئيسياً من تركيبة العمل الإعلامي، فنحن نعمل بمحطة أو اثنتين أو ثلاثة في بعض الأحيان.. نعمل في محطة لها ولاؤنا الأكبر لأن فيها الراتب الأكبر او الزملاء الأخف دماً والقرب إلى القلب، وأبداً لا نرفض أن “ننحت” أي نقوم بوظيفة جانبية في برنامج هنا أو هناك ، بشكل منتظم أو موسمي، وطبقاً لفلسفة زميلي المذكورة، فإن البرنامج الجانبي/ المحطة الثانوية، لا يجب أن “نعمل” فيها كما نعمل في المحطة الأم / البرنامج الأكثر ربحاً / مع الزملاء الأخف دماً.

فالنحتاية .. تتنحت .. مشهورة!!

وكمثال، نتعرف على الأستاذ (س) الذي يعمل كمعد ببرنامج توك شو شهير بالمحطة (ص) .. الأستاذ (س) أساساً كصحفي بجريدة قومية أو مستقلة، يتركها ظهراً، ويتوجه إلى مدينة الإنتاج الإعلامي فيصل مساءاً ويبدأ في التجهيز للحلقة.. وقد يكون (س) مرتبط ببرنامج شبيه في محطة أخرى منافسة، تقدم محتوى مماثل، فيعمل بها نفس الشخص، ليقدم نفس المحتوى، بنفس الضيوف، ونفس الأخبار التي نشرها في جريدته صباحاً .. ولأن (س) منتشر للغاية داخل مدينة الإنتاج الإعلامي، فقد يهاتفه الأستاذ (ع) طالباً منه إعداد برنامج أسبوعي ما .. أو برنامج لشهر رمضان سيتقاضى فيه أجراً محترما الخ الخ إلخ.

فمتى (يعمل) الأستاذ س ؟؟

حالة الأستاذ (س) موجودة بكثافة داخل المحطات والإذاعات، ويمكنني أن أُسمي لحضراتكم العشرات منهم، ويكفيك لتتأكد من كلماتي تلك أن تراجع تترات البرامج في قنواتنا الفضائية والأرضية، وإن لم تتمكن من ذلك فأرجو أن تراجع محتوى برامج التوك شو، البرامج الرياضية، برامج الترفيه والمنوعات، لتجد أن تكرار الضيوف وتكرار الموضوعات المطروحة يكاد يكون أمر مسلم به تماماً في مدينتنا العامرة، مدينة الإنتاج الإعلامي.

أما الأستاذ (ك) فهو مسؤول الديكور والإكسسوارات في نصف دستة محطات في آن واحد، والأستاذ (ن) يعمل صباحاً كمصور في المحطة الفلانية، ثم يجري بين جنبات المدينة بسرعة ليلحق (شيفت) جديد في أعقاب الشيفت الأول، ثم (ينحت) برنامج مسابقات ع السريع في استوديو ثالث ليلاً …. والأستاذ (م) كذلك هو مخرج هنا، ومسؤول إدارة الإخراج هناك، ولديه تصوير في القاهرة و الدار البيضاء ولبنان في نفس الأسبوع!!!

والأستاذ (ط) منتج فني في المحطة الشهيرة، ثم مساعد منتج فني في برنامج أسبوعي بمحطة اخرى، ومساعد مخرج في برنامج ثالث … إلخ إلخ إلخ.

كلنا نفعل ذلك، باستمرار، وبلا انقطاع، بل نسعى وراءه بجدية لأننا جميعاً نقع تحت مقصلة الأقساط وطلبات البيت التي لا تنتهي وأحلام السيارات الفارهة… الخ.

كلنا “نحيتة” بلغة السوق، كلنا يعمل في اكثر من مكان أو على الأقل يسعى وراء الجمع بين وظيفتين مختلفتين بمكانين مختلفين في نفس التوقيت، ولأن هذا بدأ أول ما بدأ مع العاملين بالتلفزيون المصري – المتميزين منهم- حين جذبتهم أموال الفضائيات الخاصة بمصر، فقد صار إهمال العمل بتلفزيون الدولة أمراً طبيعياً، وحين زادت القنوات وزادت المنافسة، استطاع العديد منا التسلل بين البرامج والمحطات والجرائد، ليحصل على المزيد من الأموال في مقابل تقديم جهد أقل من عادي، بلا تجديد أو إبداع.. ذلك هو ديدن السوق في السنوات الأخيرة، ولهذا تأتي حالة التوهان في زحام الإعلام كنتيجة حتمية.

كان هذا هو السبب الأبرز في رأيي .. أما الثاني فهو أننا لا نملك الكثيرين مثل (هبة) .. ولكن هذا موضوع آخر.

 

تواصل مع الكاتب عبر فيسبوك من هنا

تواصل مع الكاتب عبر تويتر من هنا

اقرأ أيضـًا:

 أشرف أبو الخير يكتب: في ذكرى المحرقة 

 أشرف أبو الخير يكتب: تاه في الزحمة (3) – التجربة الإذاعية 

أشرف أبو الخير يكتب: تاه في الزحمة (2) – الصراصير دي مستوردة حضرتك!!

أشرف أبو الخير يكتب: تاه في الزحمة (1) –المقال الافتتاحي

أشرف أبو الخير يكتب: إبراهيم فايق… جداً

أشرف أبو الخير يكتب: قلنا أنه قادم.. وأهو جه بالسلامة

أشرف أبو الخير يكتب: الغراب مهيب الركن

.

تابعونا على تويتر من هنا 

تابعونا على الفيس بوك من هنا