محمد بركة يكتب: أحمد مراد...القتل للمتربصين

كان ذلك في مساء شتوي بعيد، حين جلست بصحبة الصديق الراحل والكاتب الكبير يوسف أبو رية ” 1954- 2009″ في الباحة الخلفية لـ ” الأتيليه” بوسط البلد.

لم أحب يوما هذا المكان الذي يختص بعضوية التشكيليين، والأدباء، ويقدم مشروبات تناسب خريف المبدعين من الينسون والكركديه بأسعار رمزية في أركان رطبة وضوء شحيح على الدوام.

نرشح لك: بعد فصل قراء حفل توقيعه.. محمد الباز يطالب أحمد مراد بالاعتذار


يوسف كان كاتبا متحققا حصل على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية وغازله أديب نوبل نفسه حين قال إنه لا يمكنه الكتابة عن الريف بهذا الشكل الفاتن الذي يقدمه أبو ريه. رغم ذلك وجدته يزفر في غضب، وقد كان طفلا لا يعرف الخبث ، ويقول: “لا يمكن هذا الذي يحدث، العالم ليس له سيرة إلا هذه الرواية الركيكة التي أصبحت فجأة حديث جميع الأوساط!”

قلت لأنكشه: ما الذي لا يعجبك في ” عمارة يعقوبيان”؟

انطلق يعدد سلبيات العمل من وجهة نظره. قلت إن النص لم يعجبني أنا أيضا ” أعجبتني للأسواني شيكاغو ونادي السيارات أكثر”، لكني مع ذلك أحترم فكرة التعدد وأعرف جيدا أن هناك مستويات مختلفة في الكتابة و التلقي مستغربا أن نهاجم كل من لا يكتب وفق ذائقتنا الشخصية ولا ينطلق من تصوراتنا الذاتية نحو فكرة الإبداع بشكل عام. هنا اندفع “جو” قائلا:

مشكلة هذه النوعية من الكتابة أنها سوف تصبح المعيار الذي يقاس عليه الأدب في المستقبل!

تذكرت هذه الواقعة على إثر طبول التربص التي دقها البعض مؤخرا بمناسبة ما أثير حول حفل التوقيع الذي أقيم بمناسبة إطلاق كتاب ” القتل للمبتدئين ” للكاتب أحمد مراد. هاجم كثيرون الحدث باعتبار أنه يتضمن “إهانة ” للقراء الذي تم عزلهم في مكان آخر عن بقية الضيوف والمدعوين. ضربت كفا بكف متعجبا من ذكاء الوجدان المصري العام الذي وضع حكمة خالدة على مر الزمان: حبيبي يبلع لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط!

وبصرف النظر عن مدى دقة هذه التفصيلة، تجاهل من يسنون السكاكين الفكرة الأجمل و المعنى الأكثر عمومية: لقد صار الأدباء نجوم مجتمع، ها هو حدث يقام على ممشى سياحي في الهواء الطلق و في عز الظهر ويهرع نحوه الجمهور بعيدا عن زحام القاعات المغلقة و قطط الشوارع الخلفية في أزقة وسط البلد وأطراف المعادي.

ثمة بخار يتصاعد لغضب مكتوم تفهمت حالته في حالة يوسف والأسواني، لكني لم أتفهم أسبابه أبدا في حالة مراد. في الحالة الأولى كان هناك أدباء أنفقوا ثلاثين وأربعين عاما يعاقرون خمر الكتابة وأقصى أمانيهم أن يوزع كتابهم ألف نسخة في عدة سنوات ويكتب عنهم مرة واحدة في العمر ناقد كبير من عينة الراحل د. على الراعي. هؤلاء الأدباء وجدوا أحدهم يهبط فجأة على حديقتهم المقدسة فيسرق الشمس ويهز العروش القديمة التي يعلوها الغبار فانفجروا كمدا. في حالة أحمد مراد، الموقف مختلف تماما فهنا أنت بإزاء كاتب صاحب مشروع مهما كان هذا المشروع على غير هواك، كما أنه لا يستند في شهرته على ” عامل مساعد” مثل تقديم البرامج أو كتابة الأفلام كما في حالة عمر طاهر مثلا الذي رغم موهبته الساطعة ككاتب مقال فإنه لا شك استفاد من مساحة حضوره الإعلامي.

حالة التربص بأحمد مراد ليست مثيرة للدهشة فقط، بل للغثيان كذلك. إنها عقاب منسق قرر البعض أن يوجهه لمبدع مهما اختلفت معه فلا ينكر أحد أنه صاحب البصمة الأكثر تأثيرا في جيله على الأقل، ولكن لماذا يعاقبونه: لأنه ببساطة كشف الخدعة الكبرى ومزّق غلالة الوهم التي طالما ارتدتها أجيال متعاقبة ومفادها أننا معزولون عن الناس ليس لعيب فيما نكتبه والعياذ بالله ولكن لأن لا أحد يقرأ والناس تافهة والشباب ” يستاهل الحرق”!

بعض أصدقاءنا المبدعين لهم اعتراض تقليدي على مراد فيقولون إنه يكتب للمراهقين ويستهدف التشويق من خلال حبكة جريمة وغموض، وهذا لعمري ، على رأي الشاعر القديم، في القياس مريع! فالمراهقون ليسوا سبة والتشويق هو غاية كل مبدع يكتب نصا بحيث لا ينصرف القارئ عن نصه مهما كان نوعه إلا حين يبلغ النهاية. يعود هؤلاء و يقولون: نحن نقصد أنه يكتب كتابة خفيفة لا تعيش. حسنا، لقد قرأت أكثر من عمل لمراد وأستطيع الجزم بأن ” أرض الإله ” على سبيل المثال قطعة من الأدب الرفيع تقترب برهافتها من تخوم الشعر و تتجاوز كثيرا من نصوص مهاجميه فلماذا يصر البعض على التعميم؟ كما أن ” 1919″ تجمع بين براعة البناء الفني ومتعة السرد، ومع ذلك فليس مطلوبا من مراد و لا غيره أن يكتب وفق تصوري أو يأخذ مني نفس مسطرتي التي أقيس بها فنيات الكتابة و رؤى الإبداع.

وأنا هنا لا أدافع عن مراد فهو ليس بحاجة لدفاع من أحد، كما أن هذه ليست قضيتي، فقط أفكر معك عزيزي القارئ بصوت عال لعلك تجد معي حلا وتقول لي ماذا تفعل بالله عليك لو كنت مكاني إزاء هذه العقلية التي تتظاهر بالوعي الثقافي وهى منه براء، بأي عبارة نهمس في أذن مبدعين موتورين من نجومية زميل لهم فقط لأنه غادر كهوف وسط البلد و يكتب لقارئ حقيقي وليس لزملائه المحبطين على زهرة البستان و الجوريون؟