عمرو منير دهب يكتب: مصر بين الشرق والغرب

“من هنا وجب على من يُعنى بمصر الوطن – استقلالها وسيادتها وتقدّمها ونهضتها – أن يتحرك حول المحاور التي تحدّدها المصلحة الوطنيّة والأمن القومي بدءاً من القاعدة الراسخة التي لم ولن تهتز، وهي التي انصهرت فيها دوائر الشخصية المصرية، أي أركان دوائر شخصية مصر: الفرعونية، القبطية، الإسلامية، العربية، الإفريقية، وكلها في إطار الشرق الحضاري الأوسع”.

يبدو الدكتور أنور عبد الملك في المقتطف أعلاه عن كتابه “الوطنية هي الحل”، في طبعته الصادرة في القاهرة سنة 2021 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة المصرية، يبدو واسع الأفق في تقبّله لكل ما أسهم في تشكيل الشخصية المصرية عبر القرون. ولكن المفارقة أن سعة الأفق تلك لم تكن لترضى بذلك النمط الدكتور طه حسين قبل قرابة أكثر من ثمانين عاماً بالنظر إلى آرائه التي عرضنا لبعضها في مقام قريب عبر كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”. يتساءل طه حسين منذ بدايات الكتاب تمهيداً إلى نتيجة يودّ الخلاص إليها: “هل العقل المصري شرقي التصوّر والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هل هو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟! وبعبارة موجزة جلية: أيهما أيسر على العقل المصري: أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي؟!”.

نرشح لك:عمرو منير دهب يكتب: سحر الشرق المصري

 

يواصل طه حسين: “فإذا أردنا أن نلتمس المؤثر الأساسي في تكوين الحضارة المصرية، وفي تكوين العقل المصري، وإذا لم يكن بد من اعتبار البيئة في تقدير هذا المؤثر، فمن اللغو والسخف أن نفكر في الشرق الأقصى أو في الشرق البعيد، ومن الحق أن نفكر في البحر الأبيض المتوسط، وفي الظروف التي أحاطت به، والأمم التي عاشت حوله. وإذن فالعقل المصري القديم ليس عقلاً شرقياً إذا فُهم من الشرق الصين واليابان والهند وما يتصل بها من الأقطار… فإذا لم يكن بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصري نقرّه فيها، فهي أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم، وقد كان العقل المصري أكبر العقول التي نشأت في هذه الرقعة من الأرض سنّاً، وأبلغها أثراً”.

تتغير رؤى أي مفكر على امتداد حياته الفكرية، وهو أمر طبيعي يطال كل الناس حول مختلف شؤون الحياة وليس المفكرين وحدهم فيما يتعلق بقضية الانتماء تحديداً. ومهما يكن من التغيير الذي يمكن أن يكون قد طرأ على رؤى طه حسين على امتداد ما تلا من حياته الفكرية التي استمرت غنية وواسعة التأثير حتى بعيد حماسات الشباب الصاخبة، فإن الرجل كان واضحاً خلال كتابه الشهير هذا في انصرافه إلى تأكيد البعد الغربي في تكوين “العقل” المصري على حساب البعد الشرقي. وقد اتخذ المفكر الكبير أكثر من “حيلة” فكرية لتمرير هذه الرؤية، من تلك “الحيل” الفكرية مثلاً تركيزه على لفت الانتباه إلى الصين واليابان والهند بوصفها من أمم الشرق التي لا تتبادل التأثير مع مصر بشكل يستدعي الوقوف عنده بأي قدر، وذلك مع تقليل واضح من تأثير الحضارة الفارسية بوصفها جزءاً أصيلاً من الشرق، هذا فضلاً عن تأثير الحضارة العربية الإسلامية نفسها بوصفها في نهاية المطاف حضارة مشرقية بامتياز.

عمد كذلك المفكر الكبير، في إطار إبعاد تأثير “الشرق” عن مصر، إلى تركيز الحديث على العقل المصري “القديم” وليس العقل المصري “عبر العصور”. لكن الدكتور طه حسين كان جريئاً كعادته وهو يذهب في الإيحاء بالتصاق الهوية المصرية بالغرب إلى ما هو أبعد من مجرد علاقة العقل المصري القديم بالعقل الأوروبي القديم ممثلاً في الحضارة اليونانية أو حضارات المتوسط بصفة عامة، فها هو يطرح تساؤله بمباشرة يغلفها الاستنكار: “فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون، وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي اليسير وحده، بل معناه العقلي والثقافي، فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي، وقد استطعت أن أفهم كثيراً من الخطأ وأسيغ كثيراً من الغلط وأفسر كثيراً من الوهم، ولكني لم أستطع قط، ولن أستطيع في يوم من الأيام، أن أفهم هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب”.

غير أن المفكر عظيم الأثر لا يلبث أن يتدارك فيشير إلى الانجذاب المصري في الانتماء إلى الشرق “الأدنى” تحديداً، ولم يكن مصطلح “الشرق الأوسط” قد شاع حينها بعد، فضلاً عن كونه كما يبدو ذا أبعاد أكثر اتصالاً بالعلوم السياسية منها بالدراسات الاجتماعية: “وأنا أفهم في وضوح، بل في بداهة، أن نشعر بالقرابة المؤكدة بيننا وبين الشرق الأدنى، لا لاتحاد اللغة والدين فحسب، بل للجوار الجغرافي، وتقارب النشأة والتطور التاريخي، أما أن نتجاوز هذا الشرق القريب إلى ما وراءه، فلا أفهم أن يقوم الأمر فيه على الوحدة العقلية، أو على التقارب التاريخي، وإنما أفهم أن يقوم على الوحدة الدينية، أو على تبادل بعض المنافع المؤقتة التي تتصل بالسياسة والاقتصاد. ومن المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول”. والجملة الأخيرة هذه تشير إلى اهتمام طه حسين بفكرة التفرقة بين الدين والسياسة، وهو ما يشير إليه مباشرة بعدها ببضع فقرات: “فالمسلمون إذن قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيء آخر”.

ولكن طه حسين يواصل بعدها ملحّاً في نفي الانتماء الشرقي عن مصر، مستدعياً مرة أخرى “حيلة” التركيز على الإشارة إلى دول الشرق “الأقصى” أو الشرق “البعيد”، وغير متردّد في إشراك الأوربيين أنفسهم في تحمّل مسؤولية هذا “الخطأ الشنيع” أو “الوهم الغريب” كما وصفه من قبل: “لنعد إلى ما كنّا فيه منذ حين، فنلاحظ مرة أخرى أن العقل المصري القديم لم يتأثر بالشرق الأقصى، ولا بالشرق البعيد، قليلاً ولا كثيراً، وإنما نشأ مصرياً، ثم أثر فيما حوله وتأثر به، ولكن المصريين – كما قلنا – يُعرضون عن هذه الأوليات، ويرون أنفسهم شرقيين، فإذا سئلوا عن معنى هذه الشرقية لم يحققوها، ولم يصلوا منها إلى شيء، وأما الأوروبيون فهم كالمصريين يقررون هذه الأوليات في كتبهم، ويعلّمونها في مدارسهم، ويبذلون الجهود الخصبة الشاقة في تحقيق الصلات بين المصريين القدماء والحضارة اليونانية التي هي أصل حضارتهم، ثم هم بعد هذا كله يعرضون عن الحق، ويتجاهلون هذه الأوليات، ويرون في سيرتهم وسياستهم أن مصر جزء من الشرق، وأن المصريين فريق من الشرقيين، وليس من المهم ولا من النافع الآن أن نبحث عن مصدر هذا التعنت الأوروبي الذي يرجع إلى السياسة وإلى المنافع قبل كل شيء، وإنما المهم أن نمضي في هذه الملاحظة التاريخية حتى يثبت لنا في وضوح وجلاء أن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءاً من الشرق، واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين”.

كما أشرنا فإن طه حسين قد عرض أفكاره تلك في مرحلة باكرة من حياته الفكرية الطويلة، وسواء اتضحت آثار ما يمكن أن يكون قد طرأ على رؤى المفكر الكبير حول الانتماء لاحقاً في أعماله أم لا، فإن ما يكاد ينزل منزلة الحقيقة أن الانتماء بصفة عامة مسألة قابلة للتغيّر بصورة كبيرة سواءٌ بالنسبة للأفراد أو الجماعات أو حتى الدول، بل كثيراً ما تكون التغيّرات التي تطال تقدير الانتماء سريعة وحادّة، أيضاً فيما يتعلق بالأفراد والجماعات على السواء وفي أي صعيد.

ولكن من الحكمة، بل من الضروري، ألا يتمّ تجاهل أي مكوّن في الانتماء مهما يكن بعيداً، سواءٌ عندما ينظر الفرد إلى ذاته أو حينما تتطلع أية أمة إلى تقديم نفسها إلى الآخرين خلال أية مرحلة من مراحل تكوينها أو إعادة صياغة تعريفها في أي منعطف تاريخي، والمنعطفات التاريخية التي تقتضي إعادة النظر في تعريف الأمة – سواء في مواجهة نفسها أو أمام الآخرين – تفوق بكثير ظنون الأمة (أية أمة) وأحلامها المتشبّثة بهوية أبدية تشكّلت على وتيرة واحدة منذ الأزل. تلك “المنعطفات التاريخية” في إعادة تعريف الهوية – وليست إعادة تشكيلها بالضرورة – من الكثرة بحيث لا يسلم جيل من التعرّض لها والاكتواء بنيرانها، وذلك بما يغري بالقول بأن إعادة تعريف الذات عملية متواصلة لا تنتهي إلى إجابة واحدة قاطعة في أي من مراحل تاريخ الأمة إلا ما كان بفعل سطوة سلطة قاهرة في حقبة ما.

ومثلما أنه من الضروري ألا يتم تجاهل أيٍّ من مكونات تاريخ الأمة في أيٍّ من مراحل إعادة تعريفها/استكشافها لهويتها، فإن الأكثر ضرورة ألّا يُترك المجال لمكوّن واحد – مهما يكن عمق تأثيره – للانفراد بتعريف الأمة، سواءٌ أكان ذلك المكوّن قريباً وممتداً لأمد طويل من الزمان أو بعيداً ومنقطع الصلة بحاضر الأمة.

مصر إذن شرقية بحكم موقعها الجغرافي وبحكم حضارتها الممتدة شديدة التداخل مع الشرق بما يشمل أقصاه بدرجة أو بأخرى على مدى التاريخ المصري. ولا يجب أن يكون ثمة ما يجعل مصر تستنكف أن تكون على صلة حضارية بالغرب، سواء كان ذلك من خلاله التأثير والتأثّر الحضاري القديم عبر اليونان والبحر الأبيض المتوسط بصفة عامة أو عبر الأخذ عن الحضارة الغربية الحالية أسوة بكل دول العالم الذي بات مفتوحاً بعضه على بعض، واستلهاماً من قبل لتاريخ طويل ظل التلاقح الحضاري خلاله بين الشرق والغرب هو أسمى أشكال العلاقة بين شطري العالم. هذا، ولم يقتصر الاختلاف والتصادم والتلاقح بين حضارات العالم على شطريه الشرقي مقابل الغربي وإنما شمل مكوّنات كل شطر من الأمم والدول تتصارع فيما بينها بأشكال كثيراً ما كانت بالغة الحدّة.

الأهم أن الصراع نفسه – سواء بين الشرق والغرب أو بين المكونات الداخلية المتباينة من الأمم والدول في أي من الشطرين – هو جزء أساس يدخل في تشكيل الهوية، فالهوية ليست فقط ما تصطفيه فئة بعينها من أزمنة السلم التي تتخلّل تاريخ أمّتها وإنما ما تصادق عليه الأمة وَعْياً وحبّاً وكرامة بتأمّل وتمحيص تاريخها الطويل الذي تتداخل فيه الأعراق والثقافات وتضطرب فيه أحوال الزمان تأرجحاً بين الحرب والسلام.