ماذا لو اشتغل حسن أرابيسك علي توكتوك؟

منة المصري

(مشهد ليل داخلي عام 1994)

معزوفة الغواص عمار الشريعي في خلفية المشهد ويظهر العمدة صلاح السعدني -وفي أقوال أخرى بحسب رواية الرائع أسامة أنور عكاشة (حسن النعماني)- يقف في شقة الأستاذ وفائي بخان دويدار مدهوشا لدرجة تكاد تنطق عيناه وتهتز شفتاه من فرط الانبهار بكرسي السلطان ويقول:

رأي في إيه.. أنا عمري ما شفت جمال بالشكل دا ولا صنعة بالعظمة دي
صنعة.. صنعة دي كلمة صغيرة متوصفش الجمال دا يا نعماني.. دا فن وفن نادر.. بدعة جدك وورثهولك يا حسن

نرشح لك: بعد المشاهدة: “خيط حرير”.. لماذا تصدر المسلسل منصات التواصل الاجتماعي؟

 

(من جديد تكاد تشعر من تعبيرات ونبرة صوت حسن ولمعان نظراته واتساع حدقة عينه في المشهد أنه يكاد يذوب من فرط تقديره وإحساسه بجمال الصنعة في الكرسي فيكمل حديثه..)

لا يا أستاذ.. أنت شايف الخرط دا.. شايف التعشيقات دي.. تعشيقات الخشب مع الصدف مع المينا.. وبعدين دا إيه الخشب دا.. دا لا هو زان ولا صندل ولا أبانوس حتى..
الكتالوج الفرنساوي بيقول إنه خشب أكاجو
الله الله الله الله يا عيني يا سيدي يا عبد الرحمن يا نعماني
لا لا لا يا أستاذ دا مكنش بيحفر ولا بيخرط.. دا كان بيرسم .. لا كان بينحت.. لا كان بيعزف مزيكا.
أهو دا الفرق بينك وبين أي صنايعي تاني يا حسن.. أي صنايعي غيرك كانت عينه راحت علي تلبيسات الدهب أو الجواهر المرصعة في التاج.

(صنايعي بدرجة فنان)

هذا المشهد البديع والسلاسة في الحوار بين الصنايعي الشاطر حسن أرابيسك والأستاذ وفائي الموظف في وزارة الثقافة أكد قيمة أن تكون صاحب حرفة ومتقن لها وفنان فيها في نفس الوقت.

(مشهد ليل خارجي عام 2020)

معزوفة “وتجيني تلاقيني لسه بخيري مش هتبقي لغيري أيوة أنا غيري مفيش” تظهر في خلفية المشهد ومقدمته وبجانبه الأيسر والأيمن إن جاز التعبير بحيث تدخل إلي أذنيك من دون سابق إنذار بصوت مرتفع أو بالأحرى بعد المرتفع بمراحل لدرجة تصبح الضجة هي سيدة الموقف ويصبح الضجيج والعشوائية هي كل المشهد.

فيظهر ذلك الصبي وهو يجلس علي أريكة خشبية داخل صندوق صاج مربع يسير علي ثلاث عجلات وتحاوطه الكهارب والإضاءة الملونة من كل اتجاه لإضفاء مزيد من الحيوية والحيل التسويقية.. وتخرج المعزوفة التي سبق وأشرنا إليها منذ قليل من سماعة مكبرة متصلة بـ(USB) محمل عليها سيل من الأغاني كلها علي نفس الشاكلة من الضوضاء والهمجية.

نرشح لك: بعد المشاهدة| “نمرة اتنين”.. بين الجرأة والصدمة في عرض الحقيقة

(اشتغل حر نفسي)

التوكتوك الذي ظهر تقريبا في مصر قبل 15 عاما وتحديدا في عام 2005 وكان في البداية يمشي على استحياء في الحارات الضيقة.. أصبح يسارع علي الطرقات السريعة بكل أريحية.

والحقيقة أنني لست بصدد الحديث عن أزمة التوكتوك في مصر وترخيصه من عدمه، وإنما ما يهمني الآن هو من يجلس وراء المحرك ويقود التوكتوك أو (الركشة) كما يسمونه في الهند بلد المنشأ.

فربما منطق هؤلاء جعل من ثقافة العمل في ورشة أو التتلمذ وتعلم حرفة على يد أسطى ثقافة قديمة ولا تناسب من يبحثون عن لقمة العيش في زمن صعب، وربما ينظر البعض الآخر لمسألة إتقان صنعة والعمل لدى الآخرين (عيبة) طالما في مقدوري العمل حر نفسي.

(حتي لا أصبح بلية!)

فالباحث في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أيضا يجد أن دفع مقدم توكتوك وتحصيل أقساطه من المكسب مشروع مربح ومورد رزق سريع ولا يحتاج لتعليم مدرسي أو حتى تعليم فني صناعي، حتى أنه لا يحتاج للاستيقاظ في مواعيد محددة والذهاب إلي الآخرين للاتفاق علي المقابل المادي لتصليح سباكة حمام أو نقاشة شقة عرسان جداد أو نجارة موبيليا أو تصليح عطل سيارة.

فهنا لا يتطلب الأمر أن تبذل بعض الجهد والوقت لتتحول لـ (بلية) وتتعلم صنعة أو حرفة مثل السباكة أو النجارة أو النقاشة وغيرها من الحرف اليدوية التي اندثر بعضها بالفعل.. وربما يكون البعض الآخر مهدد أو على مقربة من ذلة إن استمر الوضع بهذه الطريقة وترك الجميع الصنعة واتجهوا للركشة!