طبيب أرياف.. كيف تنبت أغصاننا بلا أرض تحتضن الجذور؟!

مصطفى الطيب

تُدهشني قدرة محمد المنسي قنديل على صُنع الدهشة!

هذه المرة كانت الدهشة في التوقيت؛ تلقيت الرواية الأخيرة للكاتب المصري المتميز في توقيت بالغ الحرج بالنسبة لي، أبدأ فيه من الصفر على أكثر من مستوى، لأجد هذا التماس الكبير الذي خلقه قنديل في لغة رائقة -اعتدناها منه- بين ما هو روائي ابتدعه خياله وبين ما هو حقيقي في حياتي الشخصية.. ليمتد هذا التماس مع توالي صفحات الرواية من حياتي الخاصة إلى حياة المدينة التي تُحيط بي ثم إلى المجتمع الذي أعيشه بأكمله، حتى تُصبح الرواية لسان حال دولة بأجمعها!

تبدأ الرواية في سبعينيات القرن الماضي بطبيب يتم “نفيه” إلى إحدى القرى المصرية النائية كعقاب سياسي له. يخرج الطبيب الشاب من السجن الضيق إلى سجن أكثر رحابة أو في الحقيقة هو أكثر ضيقًا به من زنزانته السابقة.

نرشح لك: أنا عشقت.. مصر الجميلة النائمة تنتظر فارسًا من غبار


تضيق حياة الطبيب بهذا السجن المفتوح الذي تم نفيه إليه، منذ اللحظة الأولى تتكشف أمامنا حقيقة أن هناك سجنًا آخر في رأسه ووجدانه هو، سجن تتمدد أسواره داخله وتتسع لتبتلع عالمه المحيط بأكمله، حتى عندما يتم الإفراج عنه يعود بنفسه لزيارة سجنه القديم الذي تحول إلى متحف ومزار سياحي في صورة إبداعية خطف بها الكاتب نفس القاريء الذي يخشى أن يظل سجين نفسه ومخاوفه للأبد.

سجن اسمه “الوطن” مجبور على العيش فيه، والتمسك به، بل وخلق جذر له في أرضه. الرواية كاملًة لخصها البطل في قوله: “لا توجد أرض ثابتة أقف عليها أو أنتمي إليها” وهكذا؛ تسير أحداث الرواية بكامل شخوصها في فلك تلك العبارة، فالست جليلة بعد وفاة زوجها لا يوجد من تنتمي له وتسعى للتخلص من جنينها حتى لا يفتضح أمرها بين أهل القرية، بينما تسعى “فرح” إلى خلق مثل هذا الجنين بين أحشائها التي لا يستطيع إليها زوجها العاجز سبيلًا!

وجاء أبلغ تعبير عن هذا الوصف في هؤلاء الغجر الذين يظهرون في منتصف الرواية فجأة، كما هو حال ظهورهم المفاجيء على حواف القرى بلا أرض تحملهم أو ترحب بهم، لا يحملون أي انتماء إلا لبعضهم وللماضي الذي يرفضه من يسمعون قصصهم!

أما أتعس تعبير حي عن كل هذا فكان البطل نفسه الذي نسجه المنسي قنديل وحيدًا كأرض بور، لا زرع فيها ولا ماء، ولكنها أرض عطشى للجذور والزهور.. تحوي آبارًا عميقة تتلهف للظهور على السطح.

القاريء لأعمال قنديل عمومًا، ولهذه الرواية الأخيرة تحديدًا، لا يغفل عن هذا التشابك الجامع بين خيال مؤلفه وبين حياته الحقيقية كطبيب أو حتى كمسافر بين الأماكن والأزمان “قمر على سمرقند” أو “شخصيات حية من الأغاني” كمثال، ولكن هذه الرواية بالتحديد تستدعي إلى الذاكرة روايته الأولى “انكسار الروح” وكأنها امتداد لها أو امتداد لسيرته الذاتية في شكل روائي يأبى إلا أن يُظهره في شكل نصوص شديدة الجمال والسلاسة ولا تتطلب أي جهد في استيعابها رغم الجهد الكبير المبذول في التخلص من أثرها، ومن الحُزن الذي تُسببه دومًا في النفوس بسبب المواجهة الذاتية التي يضعنا فيها قنديل دومًا.

يعتمد المؤلف هنا على مواجهة ذاتية يضع فيها القاريء أمام سؤال يعيش معه للأبد: إلى ماذا أنتمي؟ إلى من؟! من -حقًا- أنا؟؟ مواجهة يستخدم فيها ببراعته المعتادة، هذا التناقض العبثي الذي نحياه وترجمه هو إلى “أحلاهم” تلك الحافلة المتهالكة التي لا ينالها من اسمها أي نصيب أو “لوكاندة الشرفاء” التي يُديرها قواد يحترف تسهيل الدعارة أو حتى “الترعة” مصدر الوباء المتوطن في أجساد البلد ويسمونها المُحيط!

كل شيء في هذه البلدة لا يتوافق مع أبسط الأسس المعيشية والإنسانية بل إنه سبب للهلاك والموت المنتظر ولكن؛ أهل البلدة يعاملونه كما لو أنه لا مثيل له في الوجود أو لا يمكن استبداله. هم يرضون الذل والظلم باعتباره نمطًا للحياة لابد من التعايش معه عوضًا عن تحسينه. هذا النمط الذي اختصره البطل بوصفه: “أدرك أن جذور المرض مُقيمة في مصر بينما الصحة عرض زائل.” .. هكذا ببساطة شديدة نتعايش مع أمراضنا باعتبارها جذرًا ثابتًا لا نحاول اقتلاعه.

نرشح لك: أسامة علام يكتب: 3 مشاهد في حضرة محمد المنسي قنديل


وبنفس البساطة الشديدة يستطيع محمد المنسي قنديل الكتابة بسلاسة شيف محترف قادر على طبخ أعقد الوصفات وأحلاها بعينين مغمضتين، وفي الوقت ذاته، يكتب بانطلاقة طفل تعلم المشي حديثًا ومُنطلق فرحًا بهذا الاكتشاف الحديث.

شكرًا محمد المنسي قنديل