طارق الشناوي يكتب: حكايات ومواقف من حياة حسن حسني

نقلا عن كتاب “المشخصاتي” الصادر عن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي

عندما اتصلت بالأستاذ حسن حسني لإبلاغه أنه بالإجماع قد وقع اختيار اللجنة الاستشارية العليا للمهرجان على تكريمه هذه الدورة، تمهل بعض الوقت قبل أن يجيبني فرحًا: “أنا أساسًا لا أتلقى دعوات لحضور المهرجان، فقررتم منحي أهم جائزة (فاتن حمامة) التقديرية، شكرًا للجميع على هذا التكريم الذي أنعش وجداني وعقلي وروحي”.

نرشح لك: معلومة خاطئة عن حسن حسني تداولها الجميع

ذهبت لمنزله في مدينة 6 أكتوبر لإجراء حوار صحفي نتذكر فيه معًا بعض لمحات من المشوار، وهيأت نفسي لكي أنعش ذاكرته ببعض المواقف التي عايشتها، وكنت شاهدًا عليها، فاكتشفت أن ذاكرة الأستاذ لم تغادرها حتى أدق التفاصيل.

وكما فاجأت الأستاذ حسن بالتكريم، فاجأني هو بتلك اللمحة، وجدت في غرفة مكتبه مقالًا قديمًا لي عمره أكثر من عشر سنوات، أحاطه ببرواز ذهبي، كانت مفاجأة غير متوقعة، فلم أتخيل وأنا أكتب المقال أنه يستحق كل هذه الحفاوة من فنان تصدر بغزارته الرقمية وقدراته الإبداعية المشهد الفني، صار واحدًا بين عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، قدموا كل هذا الكم من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، بالتأكيد حال عدد من هذه الأفلام مثل حال السينما المصرية (حبة فوق وحبة تحت)، وإن شئت الدقة (حبتين أو ثلاثة تحت)، إلا أن الثابت هو أن لدينا نقطة ارتكاز عميقة اسمها حسن حسني، فهو يشكل دائمًا عامل جذب مهما كان مستوى العمل الفني الذي يشارك فيه، وكأنه البينة التحتية للشريط السينمائي.

 

نعم يتباين مستوى الأعمال الفنية، ومن الممكن أن تجده يتنقل بين أكثر من شخصية في نفس الوقت، لكنه أبدًا لا يكرر الأداء، ولهذا كان يصطحب معه أحيانًا من خلال مساعده (دولابا) متحركًا يسير علي عجلات يضع فيه ربما ملابس خمس شخصيات مختلفة، ورغم ذلك كان عليه أن يعيش كل شخصية وأن يمسك تفاصيلها الخاصة وألا تترك واحدة بصماتها علي الأخرى، وتلك قدرة استثنائية أنعم بها الله على حسن حسني أن يتحرر من شخصية وجدانيًا لينتقل بسلاسة لأخرى ثم الثالثة والرابعة، تلك هي المرونة الإبداعية عندما تتجلى في أروع صورها.

الناس عادة تقطع تذكرة دخول السينما عندما تقرأ اسم البطل، إلا أنهم في نفس الوقت لا يطمئنون تمامًا لأنهم أصابوا الهدف إلا بعد أن يجدوا اسمه وصورته على الأفيش، عندها تصبح الرحلة إلي السينما ممتعة والتذكرة تستحق الثمن.

دائمًا كنا نردد في السنوات الخمسة عشرة الأخيرة: شاهدنا في العيد ستة أفلام كان بينها سبعة يشارك في بطولتها حسن حسني، تبدل طبعا الحال في آخر عامين بعد أن تضاءل العدد ولكن لايزال حسن في البؤرة.

نجمنا الكبير هو تميمة النجاح حتى أصبح تواجده بغزارة في الأفلام قاعدة متعارفًا عليها، طالما هناك فيلم فإن حسن حسني دائمًا حاضر وكأنه الشئ لزوم الشئ، حدث ما يصفه علماء النفس بالارتباط الشرطي، بين اسمه والشريط السينمائي، حسن حسني قادر علي أن يتشكل إبداعيًا طبقًا للدور وما يفرضه عليه من تبعات، فلم يستطع أحد تنميطه في قالب محدد رغم أن السينما المصرية بطبعها وعلى سبيل الاستسهال تشجع الجميع على التنميط.

حسن حسني يقف دائمًا على الشاطئ الآخر من هذا المنهج، هو لا يذهب للشخصية بمفاتيحه التي سبق وأن اختبرها وتأكد من مفعولها، ولكنه يطلق للشخصية الدرامية العنان لتفرض مفاتيحها عليه وهذا هو معنى الإبداع الحقيقي في فن التشخيص.. تستطيع أن تقُل إن ملامح حسن حسني عندما تتجاوز الخمسين من عمره كانت هي التي حركت وميض الإبداع الفني بداخله، الحقيقة أن الأمر تخطى الملامح وانتقل إلي الوجدان وكأن الجمهور كان يتنظره في تلك المرحلة العمرية لتبدأ رحلة النجومية كحالة استثنائية مع بدايات العقد السادس من العمر.

نرشح لك: فاروق الفيشاوي عن حسن حسني: لولا وجوده في بعض الأفلام ما كانت نجحت

السينما تتشكل وفقًا لرغبات الشباب، هم دافعو التذكرة وبالتالي يتجدد دائمًا الأبطال وجمهور الشباك تبعًا لما تريده تلك الشريحة العمرية، وبنسبة 80% هم في العشرينات والثلاثينات من عمرهم، النجوم عادة ترتبط بجمهور السينما القادرين علي اختيار النجم الذي يعبر عنهم، ولكن مع حسن حسني كان الأمر مختلفًا تمامًا فهو قد وصل لضعف عمر هؤلاء الشباب، إلا أنه لا غنى عن تواجده وفي مساحات درامية لا تقبل أبدًا التقليص وإلا دفع العمل الفني الثمن.

نرشح لك: نعي المثقفين للفنان حسن حسني

إنه أسطى التمثيل القادر على أن ينتقل بزاوية 180 درجة من النقيض للنقيض، يقول الفيلسوف الفرنسي “هنري بيرجسون” في كتابه فلسفة الضحك (ألحياة مأساة تراجيدية لمن يشعرون.. ملهاة كوميدية لمن يفكرون)، وتستطيع أن تلتقط من هذه الحكمة المغزى الكامن وهو أن زاوية الرؤية في الحياة هى التي تحدد لنا الموقف: هل نذرف دمعة أم نطلق ضحكة؟ والفنان الكوميدي عندما يتمتع بعمق الموهبة يستطيع أن يلتقط دائمًا الوسيلة الصحيحة لإطلاق الضحكات حتى في عز المأساة.

الفنان الكبير حسن حسني واحد من هؤلاء القادرين علي  توجيه مشاعرنا لكي نبكي أو نضحك؛ لأنه الممثل الكبير أولًا، قبل أن نطلق عليه الكوميديان الكبير، رغم إن الكوميديا هي العنوان الأكثر جماهيرية لدى الناس، إلا أن الذي منح الفنان الكوميدي كل هذا العمر من البقاء في مقدمة الكادر رغم تعدد الموجات الفنية وولادة أكثر من جيل، هو عمق الموهبة بل وتفردها، ولايزال حسن حسني يتمتع بمرونة تتيح له استيعاب مفردات هذا الجيل، والقدرة على فك شفرة الزمن، فهو الممثل الكبير بل هو الأستاذ صاحب الخبرة العريضة الذي يستطيع أن يمسك بنبض الشخصية؛ وكأنه يعيد تشكيل الصلصال، فهو يصبح في هذه الحالة بالضبط الصلصال الذي تتغير في كل مرة ليست فقط ملامحه ولكن أحاسيسه الداخلية.

نرشح لك: لماذا تسامح الجمهور مع بعض الأعمال الضعيفة لحسن حسني؟.. طارق الشناوي يفسر

أتذكر واقعتين كنت شاهدًا عيان عليهما، أعود معكم إلي عام 1996 في أحد الفنادق الكبرى بتونس خلال عقد مهرجان قرطاج السينمائي الدولي، حيث تم تكريم الفنان نور الشريف عن أعماله الفنية وأقام الوفد المصري أمسية خاصة بهذه المناسبة للاحتفاال بنور، وكان من بين المشاركين في المهرجان والحاضرين أيضًا في الأمسية ليلي علوي، حيث كان يعرض لها فيلم “يا دنيا يا غرامي”، والمنتج محمد حسن رمزي كان حاضرًا والفنان حسن حسني شارك في الأمسية لأنه كان يعرض له ضمن فعاليات المهرجان فيلم عفاريت الأسفلت.

بدأ حفل التكريم بكلمة من ليلي علوي التي تذكرت موقفًا إنسانيًا عاشته قبل بضعة أشهر عندما رحل والدها، وقالت إن نور الشريف الفنان الصديق وقف بجانبها وخفف عن أحزانها، وأضافت: “كان بمثابة الأخ الكبير الذي احتواني”، والتقط محمد حسن رمزي الكلمة وقال: “قبل 20 عامًا عندما رحل والدي المنتج حسن رمزي، وقف بجانبي نور الشريف يخفف من آلامي وكان هو بمثابة الأخ الكبير الذي احتواني أيضًا”.

نرشح لك: 5 ملاحظات على جنازة الفنان الكبير حسن حسني

انقلبت ليلة التكريم إلي حفل تأبين تغلفه الأحزان وقطرات الدموع، لمح حسن حسني الموقف الصعب الذي أصبح عليه الجميع فطلب الكلمة، وبمنتهي الجدية أمسك بالميكروفون وبدأ حديثه قائلًا: ” أريد أن أعترف بسر خطير.. نعم تذكرت موقفًا حدث لي مع نور الشريف عندما رحل والدي منذ 60 عامًا كان نور الشريف بمثابة الأخ الكبير الذي احتواني”، وقبل أن يكمل انفجر الحاضرون بضحكات صاحبة مسحت كل الأحزان وأعيد للأمسية وجهها المرح، وانطلقنا مرة أخرى من خلال تلك اللمحة التي فجرها حسن حسني من دموع التأبين إلي ضحكات التكريم.

نرشح لك: إسعاد يونس تكتب عن حسن حسني: الفنان العالمي والإنسان الخجول

وانتقل معكم إلي واقعة أبعد، إلي عام 1993 الحدث الذي مر عليه نحو 25 عامًا ولكني لا أزال أتذكر جيدًا مساء ذلك اليوم، عندما وقف الكاتب الكبير لطفي الخولي يعلن من خلال دار الأوبرا نتائج لجنة تحكيم المهرجان القومي الثالث للسينما المصرية، كنا كلنا نترقب بشغف جائزة أفضل ممثل التي كان يتنافس عليها عادل إمام ومحمود عبد العزيز وأحمد زكي ونور الشريف وكل منا لديه أسبابه التي تؤهل النجم هذا أو ذاك للحصول علي الجائزة، ثم جاءت المفاجأة التي أطاحت أرضًا بكل التوقعات عندما قال الخولي قررت لجنة التحكيم بالإجماع منح جائزة أفضل ممثل للفنان حسن حسني عن دوره في فيلم “دماء علي الأسفلت”، للوهلة الأولى سيطرت علينا المفاجأة وإلتزامنا الصمت، ولكن بعد لحظات ضجت القاعة كلها بالتصفيق لحسن حسني وبإلاعجاب للجنة التحكيم ورئيسها لطفي الخولي على هذا الاختيار؛ الذي تجاوز في موضوعيته ونزاهته كل آراء النقاد.

كان هذا يعد أول اعتراف رسمي من الدولة بأن حسن حسني ليس مجرد ممثل مبدع في الأدوار الثانية ولكنه عندما تتاح له مساحة درامية، يستطيع أن يصول ويجول ويمسك بالتفاصيل الدقيقة للشخصية الدرامية، حسن حسني بالتأكيد هو هذا الفنان الكبير الذي يملك سر وسحر الإبداع، والغريب أن العريس لم يتمكن من حضور الفرح الكبير فلقد كان في بيروت يصور أحد الأفلام ولم يتسلم الجائزة التي حملها عنه مخرج الفيلم عاطف الطيب، والذي يعتبر واحدًا من أكثر مخرجي السينما المصرية إيمانًا بموهبة حسن حسني فقد كان يرى أن هذا الفنان الكبير بئر لم نرتو منه سوى برشفات قليلة.

حسن بدأ المشوار فيما كان يعرف منذ منتصف الخمسينيات بمسرح الجيش أو المسرح العسكري، حيث شارك فيه بالتمثيل والإخراج والتأليف بعض أفراد القوات المسلحة الذين لديهم تلك الهواية، وكان له زميل في الفرقة العسكرية هو أيضًا فنان كبير آخر من مواليد نفس العام 1939 إنه الراحل حسن عابدين.

نرشح لك: أبرز الأعمال الخليجية التي شارك فيها الفنان حسن حسني

تأخرت نجومية عابدين أقصد الكاريزما الجماهيرية التي تجعل منه نجمًا للشباك حتى مطلع الثمانينيات، فأصبح نجمًا له جمهور يقطع له معجبوه تذاكر الدخول إلي المسرح بالإضافة إلي بطولة العديد من المسلسلات التليفزيونية، حيث صار اسم عابدين يتصدر التترات بل والإعلانات التي كانت كثيرًا ما تتكئ علي التليفزيون إلا في التسعينيات، كما أن السينما في نفس الفترة الزمنية ومع تغير إيقاعها ووجوهها أصبحت لا تستغني عن حسن حسني سواء كان الفيلم لأحد نجوم الضحك الجدد أو أصبح في قانون السينما، لا يجوز أن يصبح الفيلم فيلمًا دون بصمة حسن حسني.

قبل أن نصل إلي الربع قرن الأخير من مشوار حسن حسني والذي أصبح خلاله عنوانًا ثابتًا للحياة الفنية في مصر، أقلب معكم بعض الأوراق المهمة في أجندة حسن حسني الإبداعية التي وضعته في تلك المكانة الخاصة لسينما هذا الجيل.

نبدأ مع المخرج عاطف الطيب حيث كانت بينهما حالة من التوافق، الطيب منح حسن حسني أدوارًا مهمة في أفلام سواق الأتوبيس والبريء والبدرون وضربة معلم والهروب، ثم البطولة المشتركة مع نور الشريف في دماء على الأسفلت، كان لدى الطيب قناعة مطلقة بموهبة حسن حسني الاستثنائية، حوالي 30% من مجموع أفلام الطيب فيها حسن حسني وهذا دليل عملي علي أن الطيب كان يرى فيه موهبة ما لم يستطع أن يرها الآخرون.

نرشح لك: فاروق الفيشاوي عن حسن حسني: لولا وجوده في بعض الأفلام ما كانت نجحت

في دماء على الأسفلت أدى دور كامل الباشكاتب المكافح الذي يواجه الفقر الذي يطيق عليه بضراوة من كل جانب، ولا يجد أمامه سوى حل واحد قبول الرشوة في لحظة يجد فيها الإنسان نفسه يقف في صراع مصيري بين القيم التي يؤمن بها والعوز الذي يحيط به، نعم أسامة أنور عكاشة والمخرج عاطف الطيب في دماء على الأسفلت كانت تريد أن تصل إلي ما هو أبعد من مجرد تقديم رسالة تدعو الناس إلي التمسك بالشرف والنزاهة، الهدف هو إدانة الفقر الذي أطاح بالقيم والمبادئ والنزاهة واغتالهم بسكين بارد وكأنه يردد مع أبو ذر الغفاري: “عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ويخرج علي الناس شاهرًا سيفه”، فكان ينبغي أن تذبح المبادئ وكانت تلك هي الدماء التي سالت ساخنة على الأسفلت.

قدم حسن حسني الدور القانونية، فقد صارت إدانة لمن دفعه للخطيئة، ووجدنا مسارًا آخر ينبغي أن تتجه إليه شحنة الغضب، لم يرد الكاتب أسامة أنور عكاشة ولا المخرج عاطف الطيب سوى أن ندين الفقر والدولة التي لم توفر لأهلها الحدود الدنيا للحياة.

ومع داود عبد السيد أتوقف أمام دوره الذي أداه بكل انتشاء في فيلم سارق الفرح، هذا الذي كان من الممكن أن يعتبر واحدًا من أفضل أفلام السينما المصرية ومن أفضل أفلام داود، إلا أن بطلي الفيلم لوسي وماجد المصري خصما الكثير بأدائهما من حالة الوهج والإشعاع الخاص للفيلم.

ولكن بلا شك ظلت هناك لمحات عصية على النسيان، تابعنا حسن حسني في مشهد لا أنساه وهو يعزف على الرق وأمامه ترقص حنان ترك وتتمايل، ومن خلال النظرات المتبادلة بين حسن حسني وحنان قدم الإثنان إيحاء بليغًا بلا أي مباشرة لعلاقة جنسية، لم نر منها شيئًا علي الشاشة سوى فقط نقرات أصابع حسن حسني لتضبط الإيقاع وومضات حنان ترك التي تعبر عنها بعينيها، قال حسن حسني لداود بعد أن قرأ السيناريو واستوقفه المشهد: “أنا معك حتى لو تعاقدت على الدور مجانًا، يكفيني أن أؤدي هذا الدور”.

مع المخرج أسامة فوزي في عفاريت الأسفلت، كان دوري الحلاق حالة أخرى من التحليق الفني، كان المونولوج الدرامي الطويل هو أحد أسلحة أسامة فوزي التعبيرية، الحلاق الذي كثيرًا ما يثرثر بالكلمات والحكايات وينتقل من حالة إلي أخرى، وهذا نوع من التحدي بحاجة كما يقولون إلي غول التمثيل، الأمر ليس متعلقًا بطول جمل الحوار وضرورة حفظها ولكن بالقدرة على الانتقال بنعومة من حال إلي آخر، والتلون مع كل لمحة تعبيرية لتلك الشخصية.

ومع رضوان الكاشف في ليه يا بنفسج كان هو أشبه برائحة زهرة البنفسج، فلقد كان يشكل تواجده في دور فاقد البصر روح وبصيرة الفيلم، ومع نجوم الكوميديا قدم من إخراج شريف عرفة أول ثلاثة أفلام لعب بطولتها علاء ولي الدين، وهي عبود علي الحدود والناظر وابن عز، وسوف استبعد الفيلم الأخير من التقييم لأن مخرج الفيلم شريف عرفة أعلن أكثر من مرة أن ابن عز فيلم لم تكتمل عناصره وحورب من الخارج، إلا أنه أيضًا كانت لديه مشكلاته كشريط سينمائي؛ فأصبحت الحرب من الداخل والخارج ولاقى هزيمة مستحقة.

نرشح لك: رامز جلال يكتب عن حسن حسني: لا أنسى موقفه معي!

ويتبقي أول فيلمين عبود والناظر اعتبرها من أفضل ما قدم على مستوى الكوميديا في العشرين عامًا الأخيرة.

لو أننا أخضعنا الأفلام للتقييم الفني الحقيقي بعيدًا عن الأحكام المسبقة التقليدية التي تضع الفيلم الكوميدي في مرتبة ثانية، عندما أراجع أداء حسن حسني في دور والد علاء ولي الدين في عبود، حيث كانت مشاهد حسن حسني ومحمد يوسف لا تحمل إلا نوعًا من الترديد لما يفعله علاء ولي الدين في المعسكر بعد أن تم تجنيده، لجأ الكاتب أحمد عبد الله والمخرج شريف عرفة إلي أسلوب التقطيع المتوازي بين مشاهد التدريب العسكري لعلاء ورفاقه كريم عبد العزيز وأحمد حلمي ومحمود عبد المغني، وبين حسن حسني الذي استطاع بصدق أدائه إحداث التوازن الدرامي المطلوب.

ولا يمكن أن يصل الفيلم إلي هذه الدرجة من التماشي مع الجمهور والجاذبية لو أنك استبدلت حسني بأي ممثل آخر، كانت هذه المشاهد ستبدو لا محالة مملة، وكأنها وزن زائد على الشريط السينمائي لتغتال الفيلم كله وتقتل إيقاعه، لولا الأداء العبقري لحسن حسني الذي بث فيها الحياة فحافظ علي انسياب الفيلم.

أما في الناظر فلقد كان هو رمانة الميزان التي حافظت علي الإيقاع الخاص لهذا الفيلم الملئ بالمغامرات الفنية، حيث قدم حسني دوره بدرجة من الجدية لا يمكن إنكارها، وفي نفس الوقت كان قادرًا علي تفجير الضحكات، تواجده في الفيلم وحضوره الخاص كان له ولا شك جزء كبير من تلك الحالة المتوهجة في الأداء؛ التي وصل إليها الراحل علاء ولي الدين.

إنه الممثل الجاد القادر علي أن ينسيك في لحظة أنك بصدد فقط كوميديان؛ رغم عبقريته ككوميديان، يكفي أن تعود 22 عامًا للوراء لدوره القصير جدًا أمام أحمد زكي في ناصر 56 لمحمد فاضل، في مشهد واحد هنا نرى أن الممثل الأستاذ المتمكن يستطيع أن يملك مشاعرنا ولا ننساه فكان بطلًا ووصل للقمة في دقائق معدودة.

ثم أيضا هو الممثل القادر علي أن يضبط روح الأداء من الواقعية إلي الفانتازيا، مثلما شاهدناه مثلًا مع الكاتب والمخرج رأفت الميهي في فيلمي ميت فل وست الستات، حسن حسني لا يفرض قانونه الخاص علي العمل الفني لكنه يترك نفسه حرًا ليعيش إيقاع العمل الفني.

هل أذكركم بدور الشيخ إبراهيم والد أم كلثوم في المسلسل الرائع الذي كتبه محفوظ عبد الرحمن وأخرجته إنعام محمد علي وهو يرصد حياة كوكب الشرق، عندما يقرر في لحظة بعد أن طالت بعض الشائعات سلوك ابنته فلا يجد أمامه من حل سوى أن يعُد بها لقريته طماي الزهايرة، هذه هي سمات الممثلين الكبار أن يمنحوا أنفسهم للشخصية تتلبسهم، لكنهم لا يتلبسونها تفرض عليهم ألوانها بدرجاتها المختلفة ولا يضعون هو ألوانهم.

نرشح لك: ماجدة زوجة حسن حسني تكتب: طفل مشاغب

في مسرحية حزمني يا والتي قدمت علي شريط سينمائي كان حسن حسني هو المسؤول عن تعميد محمد هنيدي كنجم كوميدي جديد، يمنح حسن حسني من يقف بجواره فرصة التألق، ولا يشعر بأن هناك من يريد أن يخطف منه الإيفيه أو أن يسرق منه الكاميرا، إنه يمهد له الإيفيه عن طيب خاطر ويوجه الكاميرا مثل لاعب الكرة الذي يصنع الهدف ويضع الكرة على قدم اللاعب الهداف، والجماهير في العادة تصفق للاعب الذي أحرز الهدف وتنسى صانع اللعبة.

لقد روى الأستاذ حسن حسني كيف أن محمد هنيدي في البداية أراد الانسحاب من المسرحية لأنه وجد الدور صغيرًا ولن يحقق من خلاله أي خطوة أبعد مما كان قد وصل إليه، إلا أن حسن حسني بخبرته العريضة وقدرته على اكتشاف الموهبة أكد أن هذا الدور هو المنصة التي سينطلق منها لآفاق النجومية، وهو ما تحقق بالظبط أثناء العرض حيث تم تعميده بعدها نجمًا قادمًا في الكوميديا.

حسن حسني من هولاء القادرين علي إضافة موقف يضحك الناس وفي الوقت نفسه يضيف للشخصية، وهكذا جاء إيفيه القرين وحقق هنيدي أعلى درجات التواصل مع الجمهور، لأن حسن حسني استطاع أن يكتشف ما الذي يملكه هنيدي من إمكانيات وقدرات ليزداد توهجًا.

إننا هذه المرة نتوقف أمام قدرة الضبط النفسي التي يتمتع بها عدد قليل جدًا من النجوم خاصة في مجال الكوميديا في السينما، وربما يصل الأمر إلي حدود الندرة لو أننا بصدد عرض مسرحي، لأن المكافأة التي يمنحها الجمهور لنجومه هي التصفيق والضحكات، ويتباهى عادة نجوم الكوميديا بعد كل ليلة عرض، بعدد وزمن الضحكات التي يحصل عليها كل منهم.

حسن حسني يترقب أن ينجح كل الفريق، فكما هو معروف مثلًا أن عبد المنعم مدبولي كان هو بطل مسرحية مدرسة المشاغبين حيث لعب دور الناظر الذي أسند بعد ذلك لحسن مصطفي، الذي كان يلعب في نفس المسرحية دور المدرس، السر وراء انسحاب مدبولي قبل لحظات من تصوير المسرحية تليفزيونيًا هو إحساسه أن نجوم الكوميديا الشباب وقتها في مطلع السبعينيات عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي، حققوا علي المسرح نجاحًا لافتًا في تفجير الضحكات، فلم يرض أن تحسب عليه هذه الهزيمة بالصورة وتتحول إلي وثيقة.

نرشح لك: تفاصيل اللقاء الوحيد بين “عبد الناصر” وحسن حسني

نعم عبد المنعم مدبولي لعب هذا الدور مع جيل فؤاد المهندس ومحمد عوض وأمين الهنيدي، لم يكن لديه مانع أن يقف في الصف الثاني خلف هؤلاء وأن يمنحهم أيضًا مفاتيح الأداء؛ لأنهم محسوبين علي مدرسة المدبوليزم، ولكن عادل إمام ورفاقه كانوا يعبرون عن نوع مغاير من الكوميديا لم يهضمه مدبولي فانسحب، بل وناصبها أيضًا العداء، تمسك وقتها منتج المسرحية الراحل سمير خفاجي بالنجوم الجدد ورفض تقليص أدوراهم، وهو ما حدث في مسرحية تالية كان بطلها أمين الهنيدي، الذي اعترض علي المساحات التي منحت لعادل إمام الذي كان يشاركه البطولة، إنه إحساس فطري بالخوف من أن يأتِ نجم جديد فيسرق الكاميرا من نجم كوميدي راسخ، إلا أن حسن حسني كان يعلم جيدًا أن لا أحد من الممكن أن يزيح أحدًا، بل هو يلعب دور المحفز لكل هؤلاء لكي يزداد بريقهم.

حسن حسني تذوق هذا النوع الجديد من الكوميديا الذي جاء به جيل هنيدي وعلاء وسعد وأشرف وهاني وحلمي، وصولًا إلى مكي ورامز جلال، منحهم ثقلًا عندما وقف معهم وامتلك المرونة الإبداعية في الأداءات التي تتيح له أن يهضم المفردات الجديدة، ويستطيع أيضًا أن يمنحهم من نبضه وإحساسه، فتتجسد أمامك بإيقاع هذا الزمن، رغم أنها في عمقها تنتمي إلي كل رصيد حسن حسني وزمنه