محمود الجندي.. "معاوية" الباحث عن الله

“في أكرم من أن ربنا لما يحب عبد يبتليه بحاجة تقربه منه؟”

تلك الكلمات لخصت بها الفنانة عبلة كامل “جليلة” حياة الفنان الراحل محمود الجندي “الشيخ معاوية” في حوار مؤثر جمعهما في أحد مشاهد رائعتهما “حديث الصباح والمساء”، وكأنها النبوءة التي أخبرته بها واصفة له ما سيحدث معه، ليعيده من غيبات الإلحاد لنور الله مرة أخرى.

كثير من الفروقات بين حياة “الشيخ معاوية” العابد الزاهد، زوج “جليلة” الذي يرفض ما تقوم به من أعمال شعوذة بإيمانها بأنها “ممسوسة” من جن يخبرها بكل أحوال العباد، وبين محمود الجندي الفنان الذي ألحد وعاد فاختفى ثم اختار الاعتدال، ولكن تلك الفروق تذيبها ما وصفته له جليلة، بأنه “الابتلاء الذي يقربه من الله”، فمعاوية قربه الله له بالسجن، لقوله شهادة حق، و”الجندي” قربه الله له بحريق خطف منه زوجته ليعود له من الضلال.

فمحمود الجندي، الفنان الكبير، صاحب الوجه الطيب، والزي الأبيض، المقارب لملابس المتصوفين، ولحيته الخفيفة، وابتسامته المريحة، قد ظل متأرجحًا في حياته، ما بين القرب والبعد عن الإيمان، ما بين البحث عن الذات والبحث عن الله.

فعن قصة إلحاده حكى للإعلامي عمرو الليثي، في “واحد من الناس” على قناة “الحياة”، أنه تعرض لصدمتين كبيرتين في حياته، الأولى وفاة صديقه محمود متولي، حيث كان معه قبل وفاته بدقائق، وصعد منزله وتوفي على الحال، ثم وفاة زوجته في حريق منزله، ما وضعه في صدمة حول حقيقة الحياة فهي ليست مستمرة، فهناك لحظة تأتي على الإنسان يصبح فيها غير موجود، متسائلًا: “طب إنت ماشي صح ولا غلط”.

وعن المرحلة ما قبل تلك اللحظة، قال إنه كان مقصر، فلم يكن يفكر في الزكاة وغيرها من الفرائض، ولكنه كان يصلي الصلوات الظاهرية، مثل صلاة الجمعة، ولم يكن متدينًا وقتها، مؤكدًا أنه كان في نفس التوقيت يمر بفترة “البحث عن الذات”، وأصابه الغرور كبعض الشباب، فكان يفكر في أن كل ذلك النجاح الذي وصل له بمجهوده، خاصة أنه كان حزينًا بسبب أن البلد لم تعوضه بعد خروجه من الحرب، ولم يقف أحد بجواره، فلحظة الغرور تلك وجهته لمناطق مختلفة في التفكير، منها الأفكار المتعلقة بوجود الله، معلقًا: “غصت قوي مع الناس دول”.

أكد أن الخطاب الديني، في فترة ما بعد حرب أكتوبر، كان هناك قصور في الخطاب الديني، حيث ترك الناس تربط بين الظواهر العلمية والبحث في القرآن هل هي موجودة أم لا، بالرغم أن العلم متغير، وطبيعي أن تثبت تلك النظريات خطأها وبالتالي التشكيك في القرآن، ومنه قلة الإيمان، واصفًا تلك الفترة بأنها فترة “تمرد وغرور فكري”، مؤكدًا أن مكتبته كانت مليئة بكتب الإلحاد، وكان منغمسًا في مناقشات مع الملحدين.

وعن عودته من ذلك الطريق، قال إنه يوم حدوث الحريق في منزله، وجد مكتبته تشتعل، والتي كان يحتفظ فيها بكل ما كتب عنه في الصحافة وعن أعماله وغيرها، بجانب كتب الإلحاد، وكانت أرفف تلك الكتب هي الأشد اشتعالًا، فحدث أن شعر بإشارة في عقله وصفها بأنها كاشتعال الكهرباء في عقله، أخبرته بأن ينظر لاشتعال تلك الكتب، وظلت تراوده أثناء إطفائه للحريق، وأصبح يردد: “يا رب أنا راضي باللي بيحصل لأني كنت ماشي غلط”، واصفًا تلك اللحظة بـ”لحظة التنوير في حياته”، لافتًا إلى أنه بدأ التفكير: “أنا ماشي صح ولا غلط”، بعد تلك اللحظة وانتهاء عزاء زوجته الأولى التي راحت ضحية لذلك الحريق.

في تلك الفترة قرر “الجندي” الابتعاد عن التمثيل، حيث كانت تراوده العديد من الأفكار حول مشروعية الفن من عدمه، إلى أن قابل بعض المتفتحين والمتعمقين في الدين أكثر منه، ومنهم الحبيب علي الجفري، فلقد تعلم على يديه أنه يحاسب على نيته “أنت جاي تعمل إيه”، موجهًا إياه أن يظل في الفن، لكي يقدم أدوارًا بها رسالة اجتماعية، ويؤدي فرائضه في أماكن التصوير كتذكرة لفريق العمل بها، فأقنعه بالعودة للتمثيل.

ذكر مع الإعلامي وائل الإبراشي، في برنامجه “العاشرة مساءً” على قناة “دريم”، أنه كان قد نشأ في أسرة متدينة في أبو المطامير بالبحيرة، حيث كان يجب إرسال الأطفال إلى “الكُتاب” لحفظ القرآن، وكان لديه صديقًا مسيحيًا، يذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد، وكانوا يعلمونه بالموسيقى والأغاني فكان يسأل نفسه: “ليه احنا مش بنتعلم في الكتاب كده”، فقال لوالده أنه لا يريد الذهاب إلى “الكُتاب”، بل يريد الذهاب لمدارس “الأحد”، لأن كان هناك فرق كبير بينهما، فالشيخ يعلم بالعصى ولكن القس كان يعلم بالموسيقى، فتحدث والده مع قس الكنيسة، ووافق وقال لوالد “الجندي”، إنه بعد فترة سيشعر بغربة وسيطلب عدم استكمال دراسته في الكنيسة، موضحًا أنه لم يعد يذهب لها بعد ذهابه للمدرسة.

قال إنه كان أيام الامتحانات كان يصلي، لكي يوفقه الله في دراسته، ولكنه لم يكن يصلي بانتظام، إلى أن تعرض لحريق منزله ووفاة زوجته، وكانت تلك رسالة من الله، مؤكدًا أن كل حادث في حياة الإنسان رسالة ولكن يجب أن يتعلم قراءتها بصورة صحيحة، فلا شيء يحدث صدفة، الكون يمشي منظم بثوابت، وهو مؤمن بذلك، ويرتاح لتلك النوعية من التفكير.

قال إن بعد تلك الحادثة لم يكن يعلم كيف يعود إلى الله، فقد ترك الالتزام فترة طويلة، منذ أن ترك أبو المطامير، فتحدث مع شقيقه الاًصغر والذي وصفه بأنه “الأعلم” منه، حيث يقرأ كثيرًا عنه، فأخبره أنه سيصطحبه في رحلة صغيرة، وكانت رحلة عمرة، وصفها “الجندي” بأنه كان يشعر أنه طفل تائه من أهله ووجدهم، حيث وجد نفسه وسط المعتمرين، فشعر معهم، ومع شعائر العمرة، من طواف وسعي وغيرها، وجد ضالته، ونفسه، وعاد للطريق المستقيم.

وعن ارتدائه “الجلابية”، قال إن ذلك حدث خلال العمرة، فأحد المعتمرين قال له: “هتفضل كده بجلابية وبنطلون؟ هاتلك جلابية عشان تبقى مرتاح”، فارتداها بعدها لعدة سنوات، لأنه عندما عاد من العمرة شعر براحة بها، واصفًا إياها: “كنت حاسس وأنا لابسها بأني مالك نفسي أنا حر جواها”، مؤكدًا أنه خلعها وعاد للملابس العصرية بسبب ما أشيع عنه أنه “انحرف وسلك طريق التزمت الديني”، لكي لا يسيء للدين، ويجعل الناس يذكرونه بالسوء بسبب ذلك الزي، لافتًا إلى منع التلفزيون المصري لظهوره إعلاميًا على قنواته في تلك الفترة، بسبب شائعات تزمته.

أما عن شائعة أنه شيعي، أوضح في “حفلة 11″، على “ON E”، مع سمر يسري، أن ذلك حدث بعد زيارته للعراق، وارتدائه لملابس الجيش وأوضح أنه في الأساس سافر إلى العراق لمهرجان السينما هناك، وذهب لموقع استشهد به الكثير من العراقيين، وكانت “مجزرة”، فارتدى الملابس العسكرية العراقية، ليكون قريبًا من روح المكان ولم يسأل إذا كان تابعًا للحشد الشعبي أم لا، لأنه لم يهتم بذلك، هو فقط كان يريد مساندة الشعب في مصابه.

وأكد أنه يحب الوسطية، ولم يكن يومًا صوفيًا، فهم لهم طقوسهم الخاصة، فالصوفي، يعيش مع الله طول الوقت، ويزهد الدنيا، وهو لم يفعل ذلك، فهو ليس صوفيًا، كما قيل عنه، ولكنه أكد في مداخلة هاتفية مع برنامج “صح النوم” على قناة ltc، إنه يعشق آل البيت، واختار الاعتدال في التصوف.