هاني هنداوي يكتب: عزيزي القاريء.. "ما تخليك حلو أومال!"

ضغطة زر واحدة كانت كفيلة باجتزاز رقبتي، وانتهاك شرفي، والتنكيل بسمعتي، وإقامة الحفلات الماجنة فوق قبري، ولكن شكرًا للسماء التي لم تنقطع معجزاتها عن البشر يومًا، فتجلّت إحداها أمامي واضحة، سلِسة الفهم، مُفعمة بالحكمة، وكانت الرسالة تقول بإيجاز: “لا تنزلق إلي تلك الهاوية أيها الأحمق”. هاني هنداوي عن القارئ

أجزاء من الثانية حالت بيني وبين هذا الموت المُحقق، فجاءت العناية الإلهية على هيئة خاطر مرق كالبراق، أعاد لي صوابي ورجاحة العقل التي أغشاها الغضب لحظات، فكدت اندفع وراءها إلى مصير الهلاك كالأبله، لأسقط في بئر عميقة، مُغرقة، لا نجاة منها، اسمها.. “مصيدة القاريء”.

كانت المعركة حامية بين القراء، والشتائم متناثرة بكل مكان، والتعليقات تتطاير كاللهب، وانقسما كليهما إلى فريقين متحاربين يرفعان شعارًا واحدًا لا مساومة عليه، فإما أن يقبل أحد الأطراف برأي الآخر في إذعان، وإما هي الفوضى والإساءة وقلة الأدب، وها أنا أتأهب وسط هذا المشهد الحافل بالكثير من الدماء والأشلاء، لكتابة رد فاحم علي أحد التعليقات التي أبدع صاحبها في انتقاء ألفاظها من القاموس الجامع للسِباب، ثم ألقاها مباغتة في وجه كاتب المقال، فاسد الذمة، مُخرب العقول، راعي الضلال في الأرض. ورجاء لا ترثي لحالي إذا علمت أن الكاتب المقصود بكل هذه الإهانات، صاحب المواهب الشيطانية المتعددة هو بتواضع شديد.. أنا!.

الواقعة عمرها سنوات، ولم تكن الأولي في تقريعي، لكنها كانت جديرة لأسأل نفسي بإلحاح منذ ذلك الحين: “لماذا كل هذا العنف أيها القاريء؟”.

أي خلاف بين القاريء والكاتب مهما بلغ فُجره لن يتعدى كونه خلافًا في الرأي، فلا خلافات على ميراث منهوب أو قضايا أحوال شخصية، وإنما تنقطع العلاقة بينهما إذا انفض القاريء عن معية الكاتب واعتزله، فلا يعود يصدقه أو يأمن كلماته، وهو لو تعلمون ألمه لدى الكاتب لـ اكتفيتم به كعقاب، وادخرتم لعدوٍ آخر كل هذه الكراهية التي تملأ صدوركم المشحونة بالغضب.

من السذاجة التذكير بالبديهيات التي تقول إن الكاتب بلا قاريء أشبه بالعدم، وأي معركة بينهما محسومة لصالح الأخير الذي يملك منفردًا سيف المعز وذهبه، فرغم إرادتنا تظل أنت صاحب “الكعب العالي” مهما انتفخت أوردة الكاتب أو اتسعت دائرة مريديه. أنت الآمر الناهي في شأن الكاتب، فإما أغدقت عليه بالنجاح والصيت الذائع أو عذبته بالتجاهل والنقد اللاذع.. فأي عدالة تلك التي تريدها لنفسك بعد ذلك أيها القاريء؟!.

علاقة تبدو غريبة الأطوار بين طرف أول اعتاد أن يجلس ويفكر ويكتب دون أن يُزيح عن رأسه شبح القاريء، الطرف الأقوي في معادلة يملك فيها كل أسلحة السخرية والاستهزاء، والتي بوسعه إشهارها في وضح النهار أمام أي كتابات لا تروقه أو تقلل من بداهته، فهذه هي المعادلة الوحيدة التي يتوارثها الكُتّاب طائعين منذ الأزل، يُناولونها لبعضهم البعض في صمت مُريب، وكأنهم أذعنوا لذلك القيد الذي يطوق أقلامهم، فباتت أي محاولة لكسره أو تخفيف وطأته غير مُجدية.

المؤكد، أنه لا حديث أشد رعبًا علي الكاتب سوي كتاباته المُهملة التي لا تجد قارئًا تجذبه، فأنت سنده الوحيد في مواجهة أي انتقادات تنال من موهبته، لذا يحرص الكاتب دائمًا على التنبؤ بما يُسعدك أو يُغضبك أو يُبكيك، ولكن تكمن المشكلة في أنك متقلب الأمزجة، سريع الملل، شديد الانفعال، صاحب نزعة غريزية للتقريع.. أهذه طريقتك في رد الجميل أيها القاريء؟.

يظن البعض أن الكتابة عملية هينة، فما أيسر أن تجلس علي ذلك الكرسي المخملي، منكفئًا علي الأوراق، تستدعي الكلمات المُوحية من مخيلتك، وفي الخلفية أنغامًا تملأ المكان بروح الدفء، فيبدو المشهد أقرب لسيدة مُسنة تُطرز بين أصابعها ثوبًا بألوان زاهية، مُطمئنة مرتاحة، ولا شيء يُعكر صفو مساءها سوي مشقة وضع الخيط الرفيع في ثقب الإبرة متناهي الصغر.

أقول بإيمان مطلق لكل من يصدقون هذه الصورة البلهاء: “يا لكم من حمقى”!،

كنت علي وشك الوقوع فريسة سائغة أمام قاريء يتملكه شبق الافتراس والاغتيال المعنوي، فإن تغافلت لثوانٍ عن نعمة البصيرة لأدخلت نفسي طواعية في “هولوكست” القاريء، وانقلبت محاولتي لرد الاعتبار أمام بعض التعليقات الفجة إلى جحيم مستعر.

ربما يأتيك الموت فجائيًا أو متوقعًا، في حادث أو علي سرير المرض، ولكن أن يأتيك في صورة قاريء يلاحقك بالسباب واللعنات، فهذا الموت هو الأشد فتكًا، ولتكن كلماتك الأخيرة عندها: “ويلي منك ألف مرة عزيزي القاريء”.

هاني هنداوي عن القارئ

نرشح لك: أحمد فرغلي رضوان يكتب: كلينت إيستوود.. السينما تمشي على قدمين

شاهد: يوم #مش_عادي في ضيافة الإعلامية سالي عبد السلام