حلمي النمنم يكتب: القتلة الأوائل.. والأواخر

نقلًا عن: المصري اليوم

حاول جورجي زيدان، منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تقديم تاريخ الإسلام روائيًا، وأصدر أكثر من عشرين عملًا روائيًا تحكي وتقدم فترات وشخصيات مهمة في التاريخ الإسلامي، وكانت حجته أن القارئ المعاصر ليس لديه الصبر ولا الدأب، فضلا عن القدرة على قراءة ذلك التاريخ في المصادر والمراجع العربية القديمة، نظرًا لصعوبة أسلوبها وتباين مفرداتها وأسلوبها عما هو سائد اليوم سواء في الكتابة أو الحديث بين الناس، ورغم تعرض مشروع “زيدان” لكثير من الانتقادات والهجمات من بعض الكتاب والتخوف والاتهام من بعض المتشددين أدبيًا ونقديًا ودينيًا، فإن تكرار طباعة هذه الأعمال، في عالمنا العربي كله إلى اليوم، وإقبال القراء والنقاد عليها يؤكد بعد نظر “زيدان” ونجاح مشروعه.

اليوم، نحن بإزاء مشروع يقترب من مشروع “زيدان”، يقوم عليه الكاتب الكبير والروائي إبراهيم عيسى، تحت عنوان ضخم هو “القتلة الأوائل”، والواضح أن إبراهيم يرجع إلى تاريخ الإسلام بحثًا عن جذور التكفير وبذور العنف والقتل وتوظيف الإسلام سياسيًا لمحاربة الخصوم وقتل المختلف، وبدأ من اللحظة الفارقة والموجعة في تاريخ المسلمين وهي لحظة تسور الدار على عثمان بن عفان وقتله كأبشع ما يكون القتل، بزعم “لقد كفر”، وهكذا كانت الرواية الأولى “رحلة الدم”، صدرت سنة 2016، وهي رواية طويلة تجاوزت صفحاتها السبعمائة – 708 صفحات – ومؤخرًا صدر الجزء الثاني من هذه السلسلة، وذلك المشروع بعنوان “حروب الرحماء” وتقع في 683 صفحة، وقد تناولت الرواية أحداث معركتي “الجمل” و”صفين” وكنت أود لو أن الكاتب أصدر هذا العمل في قسمين أو جزأين، جعل معركة “الجمل” في قسم و”صفين” في قسم منفصل، تخفيفًا على القارئ، وأتصور أن هناك أجزاء قادمة في الطريق، تتناول مقتل على بن أبي طالب كرم الله وجهه على يد الإرهابي عبد الرحمن بن ملجم؛ وما تلا ذلك من ظهور فرق وأحداث أصلت للقتل وللتكفير وعقدت له قواعد وأحكامًا وجدت من ينادي بها في عصرنا من حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب وصولًا إلى بن لادن والبغدادي ومن تبعهم على طريق الدم والقتل.

نرشح لك: محمود عبد الشكور يكتب: “حروب الرحماء”.. المثالية في مواجهة الواقع

ورغم ضخامة حجم “حروب الرحماء” إلا أن الأحداث فيها مكثفة والأسلوب كذلك، ونجح كاتبها في أن يلم بالكثير من التفاصيل الصغيرة والدقيقة، وأن يرصد كذلك مواقف وحركات الأشخاص والأبطال على مسرح التاريخ، ولم ترهبه ضخامة الأسماء وثقلها المعنوي والروح في وعينا وضميرنا الديني، والحق أن معركة الجمل وكذلك صفين مؤلمة للضمير المسلم وللضمير العربى، فضلًا عن الضمير الإنسانى.

تأمل معركة الجمل – مثلًا – في طرف منها يقف علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله وربيبه، زوج ابنته الحبيبة فاطمة الزهراء وأب حفيديه، قرة عينيه الحسن والحسين، وفي الطرف الآخر تقف السيدة عائشة زوج الرسول المفضلة وأم المؤمنين، التي أمرنا في حديث نبوي أن نأخذ نصف ديننا عنها، وهي قبل ذلك كله ابنة الصديق رضي الله عنه، وفي صفين، يقف في كل ناحية عدد من الصحابة، وقد نجد أحدهم في ناحية وشقيقه في ناحية أخرى من المعركة، ويتقاتلان بحمية دينية وكأن كل منهما يؤدي فرضًا إلهيًا؛ فى إحدى جولات معركة صفين قتل حوالي عشرين بدريًا، وربما بسبب تلك الحساسية جفل كثير من الكتاب المعاصرين من الخوض في هذه التفاصيل وتم الاكتفاء بتقديمها تاريخيًا في جمل بسيطة ومبهمة، شديدة العمومية؛ وربما كان د. طه حسين حالة متفردة في هذا الجانب، إذ عكف على هذه المرحلة وقدمها في كتابه “الفتنة الكبرى” بجزأيه، ما بين عامي 1947، 1953، وقد تجنب د. طه كباحث الكثير من التفاصيل الصغيرة، وإذا كان الباحث والأكاديمي يمكنه الإفلات من بعض التفاصيل، والتركيز على الخلاصة والجوهر فإن الروائي يعتمد في تناوله على التفاصيل الدقيقة للأحداث وللشخصيات، ومنها يتكون العمل الروائي.

وفي تناول شخصيات ومعارك بهذا الوزن في التاريخ، قد ينزلق الباحث أو الكاتب والروائي بسهولة فينحاز إلى أحد طرفيها أو لا يستطيع مقاومة الانحياز، فيضعف العمل ويتحول إلى نوع من الوعظ والنصح والتبشير والانحياز الأيديولوجي وربما الوقوع في مذهبية مقيتة أو البكاء والنحيب على القتلى والفريق الذي لم يتنصر والفريق الذي أضاع الحق.

وتجنبت رواية “حروب الرحماء” هذا الانحياز وأفلتت باقتدار من الانخراط الأيديولوجي والدعوى، ولم يكن ممكنًا أن يتحقق ذلك لولا قدر كبير من التجرد في التعامل مع الوقائع والأشخاص، ومحاولة الغوص عميقًا إلى ما هو إنساني لدى كل فريق، بغض النظر عن موقف كل منهما، وراح الروائي ينقب في كتب التاريخ والمصادر الإسلامية يكشف الكثير من الخفايا التي تساعد القارئ على أن يرى الصورة كاملة ويتفهم ويستوعب أكثر مواقف كل طرف ولماذا وكيف انتصر المنتصر ولماذا وبأي وسيلة هزم طرف آخر، وللحروب معاييرها وأدواتها وأهدافها، ولا تكتسب بالنوايا الحسنة والطيبة.

نحن بإزاء عمل لم يغمط صاحبه على ومن معه حقهم من البطولة والشجاعة وسمو الخلق، كما لم يستسهل ويتهم معاوية وعمرو ومن معهما، نحن بإزاء قائد، فرضت عليه الحرب فرضًا، ولذا يتردد ويتأنى ويحاول تجنب القتال وإراقة الدماء مرة ومرة، وفريق آخر، يعرف ما يريد ودرس خصمه جيدًا، وعرف من أين يأتيه، ولم يتردد في استخدام أى وسيلة، وعلى الجانبين تبقى النوازع الفردية والإحن والميول الشخصية الخاصة، فضلا عن رواسب الماضي، متحكمة وفاعلة، ولذا وجدنا الكثير من التبدل في مواقف وانحيازات البعض لحظات القتال وفي ميدان المعركة.

التحدي الحقيقي في الرواية التاريخية عمومًا، أن الأحداث معروفة سلفًا، البداية والنهاية معروفة للقارئ وللناقد، قبل أن يبدأ، والجديد الذى يعتمد عليه الروائي وتتبدى فيه موهبته وقدراته هو طريقة التناول والسرد وبناء الشخصيات، مما يجعل مواقفها المعلنة واختياراتها المعروفة أكثر وضوحًا وأشد اتساقًا، وهنا يصبح العمل جديدًا وممتعًا.

ويبدو أن الروائي استشعر أن القارئ قد يصاب بالصدمة من هول بعض الأحداث والكثير من التفاصيل المتعلقة بشخصيات ذات مهابة في الوجدان والوعي الجمعي، لذا راح من الصفحة الأولى ينوه وينبه القارئ إلى أن “جميع شخصيات هذه الرواية حقيقية، وكل أحداثها تستند إلى وقائع وردت في المراجع التاريخية”، وراح يحدد مراجعها ويرصدها لمن يريد أن يطمئن أو من يريد أن يواصل البحث ويذهب إلى المصادر بذاتها، وهذا يعني أن الرواية عمومًا بقدر ما هي فن وإبداع وموهبة كاتب فإنها كذلك علم ودراسة وبحث وتأمل جاد وعميق، تستوي في ذلك الرواية التاريخية مع غيرها من الروايات.

ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن مشروع “القتلة الأوائل” هو عملية تجديد رؤيتنا وفهمنا للتاريخ الإسلامي ومحاولة لتحريره من اختطاف وأسر المتشددين والأصوليين، ومحاولة جادة أيضًا لنفض القداسة عن التاريخ، العقيدة مقدسة لكن التاريخ عملية إنسانية وبشرية، فيها الصواب والخطأ.. القوة والضعف.

“حروب الرحماء” عمل ممتع ومعذب، يستحق القراءة، ويثير الكثير من التساؤلات والتأملات المرتبطة بزماننا وأيامنا أو القتلة الأواخر.

إبراهيم عيسى ينوي تأليف هذا الكتاب بعد سلسلة “القتلة الأوائل”

شاهد: يحدث لأول مرة.. في اليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب