أحمد سرحان: روسيا اليوم..بين الحلم القديم والواقع الجديد

تستعد موسكو اليوم لأكبر عرض عسكري منذ الحرب العالمية الثانية احتفالاً بيوم النصر في التاسع من مايو، ذكرى مرور سبعين عاما على هزيمة النازية وتوقيع وثيقة استسلام ألمانيا الى الماريشال السوفييتي جيورجي جوكوف في برلين، والذي يتصدر تمثاله ممتطياً حصاناً ضخما مدخل الميدان الأحمر، كما دخله أول مرة، في موكب النصر عام 1945. على مقربة منه، يقع أول فرع لمحلات ماكدونالدز الأمريكية الشهيرة في المدينة العريقة، على بعد خطوات من سور الكريملين و مقبرة لينين قائد ثورة البلاشفة الشيوعية، حيث يبدو أنه لم يبق من أفكاره سوى جثمانه المحنط داخل تابوت زجاجي ليشاهده السياح.

سبعون عاما هي مناسبة خاصة بالفعل، وهي أيضا تعني مرور ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفييتي وانفتاح روسيا على الغرب. ولكنها تأتي اليوم وقد اتخذت روسيا بقيادة فلاديمير بوتين اتجاهاً معاكساً مع استمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بعد تدخلها في أوكرانيا وضم القرم.

الرئيس القيصر

لم يعاصر بوتين زمن النصر العظيم. فهو من مواليد 1952 في مدينة سان بطرسبرج التي كانت تسمى ليننجراد في زمن السوفييت، والتي قاومت ببسالة 870 يوما من الحصار النازي العنيف في واحدة من أهم محطات الحرب العالمية الثانية، قبل أن يبدأ منها الزحف على برلين. درس بوتين الحقوق، وحصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد والحزام الاسود في الجودو. انتخب بوتين لأول مرة سنة 2000 بعد تنحي بوريس يلتسين الضعيف لأسباب غامضة. أول قرارات بوتين كانت منح حصانة قضائية لسلفه و لأسرته، قبل ان يصدر قرار آخر باستعادة النشيد الوطني السوفييتي، ليصبح من يومها هو النشيد الرسمي للاتحاد الروسي. بعد فترتين في الرئاسة تراجع بوتين خطوة خلف ديميتري ميدفيديف الذي مكث في الكريملين أربع سنوات، غير خلالها الدستور لتصبح الفترة الرئاسية ست سنوات، وليعود بوتين مرة أخرى مكتسحاً انتخابات 2012. ان بقي بوتين في منصبه حتى سنة 2024، سيصبح صاحب ثاني أطول فترة بقاء في الكريملين، خلف الدكتاتور ستالين. يجادل البعض اليوم فيما اذا كانت روسيا دولة سلطوية أم انها تتجه الى الشمولية، حيث الكل داخل الدولة ولا شئ خارج الدولة ولا أحد ضد الدولة. او باختصار، ان تعود كما كانت في زمن ستالين.

ضابط الكي جي بي السابق يفهم جيدا الزمن الذين نعيش فيه. زمن الصورة. في 2005 قرر انشاء جهاز اعلامي “بهدف مواجهة البروباجندا الانجلوساكسونية وكشف الحقائق”. بعد عشر سنوات، زار بوتين مقر قناة روسيا اليوم، التي تبلغ ميزانيتها 300 مليون دولار سنويا وتبث ارسالها بالروسية والانجليزية والعربية ، قائلا “لقد حققتم هدفي”. هذا صحيح الى حد ما، فالقناة التي ترفع شعاراً بالعربية “مشروع جديد من صديق قديم” تركز على تغطية كل خبر بشكل مناقض تماما للتغطية الغربية. مثل تغطيتها للنزاع في سوريا التي تعكس وجهة نظر الكريملين المساند للأسد، بل و تلميعه كما ظهر في لقاء أجرته معه صوفي شيفرنادزه (وهي بالمناسبة حفيدة وزير الخارجية السوفييتي السابق)، و ان كانت لا تقوم بكشف كثير من الحقائق في الداخل الروسي، مثل المظاهرات التي خرجت احتجاجاً على تصفية المعارض الروسي بوريس نيمتسوف بالرصاص في قلب موسكو، أو الضغوط اليومية على حرية التعبير استناداً على حجج اخلاقية او دينية، مثل حظر فليم ” ليفاييثن ” لمخرجه الروسي المرشح للأوسكار اندريه زفياجينتسيف لتعرض الفيلم الى الفساد في الادارة الروسية. بالاضافة الى تصاعد الرقابة على الانترنت و وسائل الاعلام و مواجهة كل انتقاد يوجه الى جهاز الأمن الفيدرالي، الذي خلف جهاز الكي جي بي، و الذي كان بوتين نفسه مديرا له سنة 1998 في رحلة صعوده الى الكريملين.

الشهر الماضي ركزت قناة روسيا اليوم على ماراثون الأسئلة الذي يعقده بوتين بشكل دوري، ويستمر لعدة ساعات يجيب خلالها على أسئلة موجهة اليه من عموم الناس ومختارة بالقرعة. احدى السيدات تدعى يلينا طلبت من بوتين بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة أن يأمر زوجها بوريس العقيد بالجيش الروسي أن يسمح لها بشراء كلب في عيد ميلادها. في البداية قال بوتين أنه ليس من سلطاته ان يفعل ذلك، ولكني اقترح عليك يا يلينا ان تخبري زوجك بعدم رغبتك في اقتناء الكلب الآن وأنك ستطيعينه فيما يطلبه منك، وأنا على يقين ان زوجك ربما يشتري لك ماهو أكبر من مجرد كلب بل وربما يهديكي معطفا من الفرو، المهم ان تجدي يا يلينا الطريقة والوقت المناسب. وأنت يا بوريس، ربما عليك تسمح لها باقتناء الكلب من أجل حياة زوجية أكثر وفاقا، فالزوجة السعيدة اساس الاسرة.

قصة على غرابتها تظهر لنا كيف يفكر القيصر. يرسم لنفسه صورة الأب للأمة الروسية. يلجأ اليه الجميع لحل مشاكلهم. في ختام الماراثون، يغادر بوتين مقعده أمام الكاميرا حاملا رزمة ضخمة من الأوراق يبدو أنه دون فيها ملاحظاته ليبدأ العمل على حل مشاكل شعبه و معاقبة المسؤولين المقصرين. في اليوم التالي، بحث الصحفيون على السيدة، ووجدوا أن زوجها استجاب لنداء بوتين وسمح لها باقتناء الكلب في عيد ميلادها الأربعين. علقت وكالة الأنباء الروسية سبوتنيك قائلة «عندما يعطي بوتين درسا فلا وقت للدراسة»، و «عندما يتحدث الرئيس، يبدأ الأطفال بالمشي»! ربما هو بابا نويل، أو ربما كما قال عنه البطريرك كيريل الأول رأس الكنيسة الأورثوذكسية الروسية: فلاديمير بوتين هو معجزة من الرب.

التاريخ الحي

أول ما سوف تواجهه عند وصولك لأحد مطارات موسكو الثلاثة هو نظرات الشك التي ستلاحقك . الارتياب من الأجنبي هو من موروثات العصر السوفييتي. عليك أن تستعد للانتظار طويلا أمام رجل الجوازات، يفحص و يدقق و يتصل برؤسائه، ثم يعيد الفحص والتدقيق قبل ان يسمح لك بالمرور، حتى لو كانت هذه زيارتك العاشرة للبلاد. أنت من الشرق الأوسط، فلا تنخدع بكل ما يقال عن العلاقات المصرية الروسية الحميمية.

موسكو مدينة كبيرة. جميلة، مذهلة، و جذابة. مبهرة بعمارتها و ساحاتها الواسعة و تاريخها العظيم. قد تنبهر أيضا بسيارات فارهة تقطع شوارعها المزدحمة، وهي من علامات طبقة الأثرياء الجدد، الذين ظهروا في التسعينات، عندما كان كل شئ وأي شئ للبيع. وحتى اليوم، يستفيد الروس من نوستالجيا الاتحاد السوفييتي أكثر مما استفادوا تحت حكمه. تستطيع شراء أي شئ تركه الرفاق، من قداحات تحمل صور لينين و ستالين، الى بعض الأسلحة الخفيفة التي كانت يوما في حوزة جنود الجيش الأحمر ، بوتين أيضا، بصفته من المشاهير، تجد صورته على المقتنيات التذكارية، يقبل عليها السائحون. حسب مجلة فوربس، فإن موسكو تأتي على رأس قائمة أغلى مدن العالم وتفوق تكلفة الإقامة فيها مثيلتها في لندن بنسبة أربعين فى المائة. بينما يعيش فيها 75 مليارديرا. ربما تشاهد بعضهم يتوافدون كل ليلة في مواكب البذخ والترف على مسرح البولشوي التاريخي، تحت أنظار تمثال كارل ماركس الشهير على الجهة الأخرى من الشارع، والذي حفرت تحته العبارة التاريخية: “أيها العمال من كل دول العالم، اتحدوا” !

اهرب من زحام الشوارع الى أحد أعرق وأكبر شبكات قطارات الأنفاق في العالم واكثرها تعقيدا. مترو موسكو، يخدم يوميا 7 ملايين راكب، عبر 200 محطة، تتميز كل منها بعمارة مبهرة، وجداريات فنية خالدة، حتى لتبدو وكأنها قاعات قصور. بني أغلب هذه المحطات في زمن الاتحاد السوفييتي، ويصل عمق بعضها الى 70 مترا، حيث كانت تتخذ كملاجئ زمن الحرب تحمي حتى من هجوم نووي. انها مدينة كاملة تحت الأرض، يخترقها زئير العربات القديمة والتي لم يطرأ عليها تجديد جذري منذ عشرات السنوات. يحق للروس أن يفخروا بهذا الصرح العظيم. المترو متحف مفتوح في الحاضر. ولكنه ليس بالضرورة انعكاس لمستقبل عظيم. ربما لهذا يكسو وجوه الركاب تهجم واضح. ليس من المعروف عن الشعب الروسي انه يحب الفكاهة. تاريخ بلاده ملئ بالمآسي والأحزان والحروب بهزائمها و انتصاراتها، في أشعار بوشكين وحكايات تولستوي و لوحات فاسيلي بيروف التي يمكنك تأملها في جاليري تريتياكوف العريق. هي بلاد على مساحتها الشاسعة عانت طويلا من هجمات جيرانها عبر التاريخ، بدءاً بالمغول في القرن الثالث عشر، مرورا بالبولنديين والسويديين و العثمانيين، وحتى الغزو النازي الذي راح ضحيته أكثر من عشرين مليونا من الروس. هو بالتأكيد شعب صبور، يعاني تحت وطأة أزمة اقتصادية وغلاء مستمر منذ سنوات.

الدب لا يزال نائما

في مارس الماضي أعلنت جازبروم انخفاض عائداتها بنسبة 85% في 2014 مرجعة ذلك الى هبوط أسعار البترول و انهيار الروبل أمام الدولار لأقل من نصف قيمته قبل عام. جازبروم هي عملاق صناعة البترول والغاز في روسيا، وتسهم وحدها بعشر الناتج المحلي الاجمالي للبلاد. لكن التراجع في نمو الاقتصاد الروسي سبق أزمة انخفاض اسعار البترول والعقوبات الاقتصادية. ففي 2013 لم يتجاوز نمو الناتج المحلي 1.5% ، وهو اليوم يبلغ 2 تريليون دولار، ويتعرض لانكماش في الربع الأول من العام الحالي، ويأتي متأخرا خلف الهند و البرازيل، ويعادل فقط خمس الناتج الاجمالي للصين، وثلث الناتج المحلي لليابان، ولا يقارن باقتصاد أمريكا البالغ 17 تريليون دولار. مع هبوط الروبل لنصف قيمته في أقل من عام، واعتماد الاقتصاد الروسي في 80% من صادراته على البترول والغاز والتعدين، ارتفع عجز الموازنة الى 10.5% من الناتج المحلي الاجمالي، و قفز الدين الخارجي الى 600 مليار دولار، وخسر البنك المركزي نصف احتياطاته النقدية. من المألوف ان تصادف شباباً روس من حملة الشهادات العليا، ويعملون بوظائف اقل ما يقال عنها أنها لا تليق، و يرغب نصفهم في الهجرة الى الغرب. ومثلما خلقت البطالة المقنعة في مصر وظيفة عامل المصعد الذي يزاحمك ليقوم بدلا عنك بالضغط على زر الطابق الذي تريد، في روسيا توجد هذه الوظيفة أيضا، وغيرها، مثل تلك السيدة التي تجلس ساعات طوال في غرفة زجاجية تراقب حركة السلم الكهربائي في محطات المترو، مرتدية هي و زميلاتها معطفا سماوي اللون من مخلفات زي العمال في الحقبة السوفييتة.

الاسلحة النووية والصواريخ وغزو الفضاء نجحت في اخفاء حقيقة أن الاتحاد السوفييتي كان دولة من دول العالم الثالث، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.و كذلك روسيا اليوم. هي أكبر دول العالم مساحة، 17 مليون كم مربع، و 150 مليون من السكان، وأكثر من 40% منهم يواصلون العمل بعد سن التقاعد نظرا لضعف شبكة الضمان الاجتماعي. مهما بحثت عن سلعة صناعية روسية في السوق العالمية، خاصة فيما يتعلق بالابتكار في التكنولوجيا الحديثة من الاتصالات أو السيارات أو الهندسة البيولوجية أو غيرها، فلن تجد. الحقيقة أن روسيا تقف اليوم عاجزة عن المنافسة في عالم تتفوق فيه الصناعة الصينية والتقنية الهندية

في الأسبوع الماضي أعلنت وكالة الفضاء الروسية روسكوزموس عن فقدانها مركبة فضاء غير مأهولة كانت في طريقها الى المحطة الفضائية الدولية، تحمل بالاضافة الى المواد الغذائية والمعدات، نسخة من علم الجيش الأحمر بمناسبة الاحتفالات بيوم النصر. عشر مركبات أخرى ضاعت في الفضاء في السنوات الخمس الماضية. ولكن لا داع للقلق، فالخبر الجيد ان رائد الفضاء الروسي القابع في المحطة الدولية لديه نسخة أخرى من العلم.

الأخطر من غياب الابتكار والمبادرة، أن الفساد يعد من الملامح الرئيسة للدولة الروسية، حيث تتصدر الدول الأوروبية في قائمة المنظمة الدولية للشفافية، بل و تأتي متأخرة في المركز ال136 عالميا خلف نيجيريا و مالاوي و موزبيق و أوغندا على مؤشر الفساد، بل و بعد مصر التي تسبق روسيا بأثنين وأربعين مركزا !

الدولة التي كانت عظمى

البعض في بلادنا يتحمس لدور روسي جديد في المنطقة. يشتاق لعودة عالم القطبين والحرب الباردة. يعتقدون أنهم يعرفون قواعد اللعب فيه. يتغافلون عن رؤية روسيا شريكا في الحرب الدائرة في سوريا، وحليفاً لايران و سياساتها المعادية لمصر والخليج. يتناسون ان الدور السوفييتي في الماضي أدى الى نكسة 67، وأورثنا سياسات اقتصادية فاشلة نعاني منها الى اليوم. نوستالجيا مثيرة للشفقة. لدي خبر سئ: الحرب الباردة انتهت قبل ربع قرن، و الاتحاد السوفيتي لم يعد له وجود.

الحقيقة أنه ليس لدينا ما نقدمه للروس بينما مصر في أضعف حالاتها، تعتمد على مساعدات أشقائها، ولا تملك بوصلة استراتيجية واضحة. و الأسوأ أن موسكو ليس لديها ما تقدمه لنا، أكثر من نشوة النكاية والمكايدة للأمريكان، وهي تصرفات تتقنها بعض السيدات في أحياء القاهرة الشعبية. عالم اليوم تحكمه المصالح الاقتصادية المشتركة فقط- ان وجدت- وليس صراع الايديولوجيات.

لقد أنقذ بوتين روسيا من مصير يوغوسلافيا. أن ينجح في تحويلها الى دولة عظمى لهو شأن آخر. واليوم تزدان الشوارع بالرايات والأعلام استعدادا لأحد أكبر العروض العسكرية في التاريخ، والذي سيتكلف 150 مليون دولار و يشارك فيها عشرات الآلاف من الجنود و مئات الطائرات و المركبات، وسط مقاطعة رؤساء الدول الغربية حلفاء النصر، بينما أعلن الرئيس المصري أنه سيحضر المناسبة.

تمر الذكرى و روسيا اليوم لم تعد هي القوة العظمى التي دفعت ثمانا غاليا لتنتصر على ألمانيا النازية، بل دولة تعاني اقتصاديا وسياسيا و اجتماعيا، وتنخرط في صراع مسلح مع بعض الجماعات في أوكرانيا. ولكن يبدو أن هذا هو أقصى ما تستطيع روسيا أن تظهره للعالم اليوم: احتفال مبهر بنصر قديم.

هي بلد ذو تاريخ عظيم.. وشعبها كذلك.. ولكنها ليست دولة عظمى و لن تكون، على الاقل في حياة جيلي.

.

اقرأ أيضًا:

جابر القرموطي يدخن “شيشة بالبامية” علي الهواء

عدو “سرايا عابدين” يزور إسرائيل‬  

حقيقة وفاة “ناظر مدرسة المشاغبين”

خريطة فيضان المنوعات على القنوات المصرية

عمرو أديب يتنبأ بحرب أهلية قادمة  

أحمد موسى ينفرد بأول فيديو للنرش في سجن القناطر‎  

.

تابعونا عبر تويتر من هنا

تابعونا عبر الفيس بوك من هنا