علي عمر يكتب: الأستاذ توفيق الحكيم

عرفته في عصر ذلك الْيَوْمَ.. لم يكن عمري قد تجاوز الثالثة عشرة، تسللت إلى الغرفه المقدسة، وهي غرفة غريبة التصميم لها بابان؛ باب يتصل بغرفة نوم لي ولأخي، وباب أخر يُفضي مباشرة إلى خارج البيت.

نرشح لك: محمد حكيم يكتب: شريط صوت صامت “عن قصد”!

تلك الغرفة خصصها أبي ليحتفظ فيها بمجموعة كبيرة من الكتب والأوراق، وعلمت فيما بعد بأنه كان يكتب يوميات له ويحتفظ بما كتب في حقيبة صغيرة في تلك الغرفة أيضاً، وبطبيعة الحال كانت تلك الغرفة “قدس” أقداس بيتنا ولا يجب لأحد أن يدخلها دون علمه، ولا أن يعبث بما فيها !

 دفعني الفضول ودخلت الغرفة ورحت أقلب بين الكتب بحذر خشية أن أُتلفها، فلقد كان بعضها في حالة مزرية من فرط القدم، ووقعت عيني على كتاب صغير، ربما لفت نظري لصغر حجمه مقارنةً ببقيه الكتب لون صفحاته أصفر يميل إلى اللون البني لم أَجِد غلافًا للكتاب ولكنني وجدت صفحة فارغة كتب في وسطها (“أرني الله” توفيق الحكيم قصص فلسفية).

في عصر هذا الْيَوْمَ تعرفت علي الحكيم وتفتح عقلي على عالمه ودنياه،  ولم تمنعني سنوات عمري عن فهم الكثير من القصص الموجودة في ذلك الكتاب، بل أعتقد بأن تلك المجموعة قد وضعت حجر أساس لشيء ما سيسيطر علي عقلي وقلبي لسنوات بعدها!

مات الحكيم قبل عام من دخولي إلى تلك الغرفة، وبالمفهوم المنطقي للزمن فهذا يعني أنني لن ألتقي به مطلقاً أو ربما سألقاه في العالم الآخر!! والحقيقة أنني قد التقيت به مرات ومرات بل وتحدثت إليه وناقشته، ثم  أثرت الابتعاد عنه بعد ذلك لثلاث سنوات كاملة!

ولا أحسبني أتحدث هنا عن الحكيم الأديب فمن أنا لأتحدث وأكتب عن “الأستاذ” ؟ ولكني سأتحدث عن علاقة خاصة وأحلام ولدت بيت صفحات كتبه، وكان لها عظيم الأثر على ما كتبت فيما بعد!

أخذ الصبي يقرأ ويعبر قصه تلو الأخري دون ترتيب حتى وصل إلى قصة “فتاة جميلة لا تعرف عنها شيئًا ، سوي أنها تسكن في حجرة مجاورة لحجرتك تسمع صوتها حين تعود في الليل وتودعها في الصباح وهي ذاهبة إلى عملها، فيُصبغ عقلك البرئ الحالم كل صفات الكمال علي تلك الفتاه فلا تري الحياة إلا بها، ويُصبح أقصى ما تصبوا إليه نفسك أن تتحدث إليها بل ربما تطمع في دعوتها إلى عشاء يجمعك بها ثم يكشف لك صديق لك “وجه الحقيقة” ( هذه هو لسم تلك القصة القصيرة في مجموعة أرني الله) ويُخبرك بأن تلك الفتاة هي “غانية” تعمل في أحد البارات البعيدة عن مسكنها !!

كان الصبي يلهث وهو يقرأ تلك القصة بل شعر وكأنه ربما يشبه بطل تلك القصة، فلقد كان عقل الصبي يتفتح أيضاً علي شيء عظيم ألا وهو “الحب”.

 ووجد الصبي نفسه يشارك الكاتب مشاعره وأحلامه ولست أبالغ إذ أقول لقد تمنى الصبي البريء أن يرى الفتاة مثلما فعل صاحب الكتاب!  (أرجوك لا تضحك من سذاجة الصبي وبراءته في هذه السن ).

ومرت سنوات بعد ذلك الْيَوْمَ والصبي لا يرى كتاب للحكيم إلا اشتراه وقرأه، وحرك “عصفور من الشرق” خيال الصبي مرة أخرى وحلم بالسفر إلى باريس وبالتسكع في شوارعها والاستماع إلى الموسيقى في مسارح المدينة المبهرة، ولم يخل حلم الصبي من وجود شقراء جميلة تشاركه أيامه في باريس كما فعل “محسن” أو “توفيق الحكيم”.

لم يكن يدرك  الصبي ساعتها بأن حلمه سيتحقق وسيقضي الشاب أياماً وأسابيع يقطع شوارع باريس، وتطأ أقدامه كل شبر من أرضها وسيحلق عقله نحو السماء وهو يستمع في سكينه لألحان تُعزف في أحد مسارح المدينة. وسيتحقق حلمه ولكن للأسف هو حلم ناقص فلم  يتعرف الشاب على “سوزي” تلك الشقراء الجميلة والتي عرفها عصفور الشرق !!

الحب، المرأة، الفن، الدين، والموسيقى،  موضوعات خاطب بها الحكيم عقلي منذ سن مبكرة، وملك عقلي في تلك الأيام وأصبح بذلك رفيقي في كل الأوقات، فلا تخلو حقيبه سفر لي أو حقيبه “اللابتوب” من كتاب “للحكيم” أطوف به أينما حللت، وكأنه قد كُتب عليه عناء الترحال وملازمه شخص مثلي لا يستقر طويلاً في  مكان واحد.

حتي كان ذلك الْيَوْمَ الذي سافرت فيه إلى “ميلانو” بإيطاليا وفور وصولي  قررت أن أتجول في شوارع تلك المدينة الساحرة، وأن أتناول القهوة الإيطالية المميزة في منطقه “الدومو” الشهيرة والكنيسة العملاقه راسخة وسط ميدان فسيح تنظر إلى السماء في إجلال هالني ذلك المنظر الجميل، والسحاب يشكل رسوماً تشبه رسم طفل علي صفحه زرقاء صافية فزادت السماء جمالاً فوق جمالها. جلست ووضعت كتاب الحكيم أمامي ورحت أنتظر النادلو الشقراء لتحضر ولتسألني:

– أهلاً بك في الدومو سيدي، كيف لي أن أساعدك ؟!

لم تأت النادلة بعد، فترددت في أن أمسك بالكتاب وأن أبدأ بالقراءة  فالكتاب معي في كل وقت، ولكني لن أبق في هذا المكان سوى أربعة أيّام فقط، يجب ألا “أضيع” الوقت الآن بالقراءة. وبينما عقلي شارد في “لا شيء” انتظر النادلة وقدح القهوة، إذ الحكيم ينتفض من سكونه ويعبر صفحات الكتاب ويهمس في عقلي:

الحكيم: يا هذا لما أحضرتني معك إلى هنا؟ من الأفضل أن يكون ذلك الكتاب مع شخص آخر يقرأه وليس مع شخص مثلك يجلس ينظر إلى الشقراوات من حوله، وينتظر أن تأتي نادلة جميلة ذات عينان خضروان تبادله التحيو وتتحدث إليه ؟

وكان هذا أول حوار جمعني مع الأستاذ، فبعد سنوات قرأت فيها للحكيم وتكونت صورة واضحة حول أفكاره وأراءه شعرت بالحق في أن أتحدث إليه وأناقشه بعض الاّراء، فكتبت قصه “النادلة الشقراء” وتحدثنا عن تلك الشرارة الضئيلة من “الجمال” أو “الانبهار” وأثرها في تفجير الأفكار وفي خلق الإبداع.

والحقيقه أن الحكيم قد كتب عن أثر المرأة أو الحب أو لنقل تأثير “الحب” علي الأدب أو الإنتاج الأدبي في أحد قصصه القصيرة، فشعرت برغبة في مناقشه تلك الفكرة فخرجت قصة النادلة الشقراء، وانبهرت بأسلوبه وحواراته مع أشياء مثل العصا، الحمار، الموت، الشيطان، شهر زاد، بل لقد تحدث إلى أبطال قصصه وشخصيات قد خلقها بيده، فحبست أنفاسي وتذوقت من تلك الأحاديث حتي ارتويت، ووجدتني أتساءل لماذ أتمسك بالطريقة المعتادة للكتابة وتصوير الأفكار من خلال شخصيات حقيقية ؟! لماذ لا أجرب وأخرج من ذلك الإطار الضيق وكان أيضاً هذا الْيَوْمَ انطلاقاً آخراً لي فكتبت قلعه الأحلام، يهوذا، إبليس، الموت، أنا وشيطان الكتابة، العمدة، ندى، الضمير وغيرها..

وأصدرت مجموعتي القصصية الأولى وضمت قليل من تلك  القصص وانتهيت بعدها من كتابة أول عمل أدبي ساخر، يضم مجموعة كبيرة من الحوارات الافتراضية مع الأشياء.

ثم بدأت المجموعه الساخرة الثانية وتعتمد أيضاً على الحوار والخروج من عالم الأشخاص إلى عالم آخر تكتب فيه بحرية كاملة ولا تتقيد بما ألفه الناس من طباع البشر.

ثم  شعرت بالحكيم يحتل حرفياً عقلي بل يمنعني منعاً من التعرف بأصدقاء أخرين وكتاب موهوبين، فظللت حبيس سجنه لسنوات لا أرى سواه ولا يحرك عقلي غير قلمه، فقررت الابتعاد عنه لثلاث سنوات كاملة، وحلقت في سماء عمالقة الأدب العربي وتراثه حتي شعرت بالشوق للحكيم وشغف للحديث معه فكنت كلما أعدت قراءة كتاب للحكيم أقرأ معه كتابين أخرين لكتاب أخريين.

وأما عن حقيبه السفر فلقد أبى الحكيم أن يشاركه أحد فيها، ولكنني لا أزال أقاومه !

وسأختم بما قاله الأستاذ في “سجن العمر”

أملي أكبر من جهدي

وجهدي أكبر من موهبتي

وموهبتي سجينة طبعي

ولكني أقاوم