وسام سعيد يكتب: الأستاذ علاء العطار.. عازف "كونشرتو" الأمل

لا تروق لي كلمة “قدوة” أو حتى “مثل أعلى”، فالكلمة قد تبدو مثالية وأفلاطونية بعض الشيء ولا تتلاءم مع حجم الانفجار القيمي والسلوكي السريع والمتلاحق في عصرنا الحالي، وكم الأسماء التي تمتلئ بها أجندة معارفنا في حياتنا اليومية.

لذلك، فقد ارتضيت لنفسي إجابة (براجماتية) شافية ووافية في هذا الطرح، وهي أنّ البشر على اختلاف مشاربهم وتعاقب أجيالهم عبر الحقب الزمنية، لا يوجد بينهم ما يجدر أن يكون قدوة أو مثل أعلى في كل شيء، أو نموذجًا يحتذى به (بالكربون) في كل صفاته وأفعاله وحركاته وسكناته، اللهم إلا الأنبياء أو حالة استثنائية أسطورية لا تتكرر مثل (عمر بن الخطاب).

إذن فالأجمل والأوقع في قضية (القدوة) أن تتنقل بين بساتين من حولك، فتقطف أحلى زهورهم وتجني أروع ثمارهم، وتأخذ من هذا ما يروق لك وتنحي من صفات ذاك ما تريد. فما أجمل أن تحذو حذو (مانديلا) في نظرته للحرية والاستقلال، وأن تمتثل لمبادئ (غاندي) في التطهر والتجرد والزهد والسمو الإنساني، وأن تقتفي آثار تجربة طه حسين في الإرادة وتحدي العجز وقهر الظلام.

نرشح لك: محمد عبد الرحمن يكتب: الأستاذ محمود عوض

وبناء عليه فقد أصابني الزميل والصديق العزيز الصحفي إسلام وهبان، بالحيرة حين طلب مني المساهمة ونيل شرف المشاركة في ملف (الأستاذ) أو المثل الأعلى بسبب هذا التشظي في الاختيار، فضلًا عن كون الفكرة أفلاطونية مثالية يصعب أن تتجه صوب شخص واحد بعينه. لكني اخترت أن أخرج بطرح مختلف يجيب على هذا السؤال أيضًا، حين قررت أن أشير من بين أجندة معارفي وأصدقائي وأساتذتي وأقاربي إلى شخص واحد، أرى أنّه ساهم يومًا في تكوين جزء كبير من تفكيري، وبنى بداخل نفسي جدرًا من المقاومة لتحديات الحياة السخيفة.

لقد اخترت الشخص الذي منحني من الطاقة الإيجابية ما يمرر داخل روحي أنابيب من نور تشرق وسط عتمة دروب حتمية نمر بها لا محالة، الشخص الذى علمني كيف أتعايش.. أولًا وأخيرًا أتعايش بالمعنى الحرفي للكلمة.. كيف أتكيف مع أي ظرف يلم بي أو يعتريني أو يفاجئني وما أكثرها، فمن المهم أن تلتقي من البشر ما يزيدون صلابة ظهرك المثقل بالآلام والأحمال، ويجددون بريق ثقتك بنفسك إذ يعتريه الشحوب والانطفاء.

هذه النوعية من البشر الزموها، لا تفارقوها ولو كلفكم الأمر أثمانًا باهظة، عضّوا عليها بالنواجذ لأنها ذخيرة ورصيد، بل معين لا ينضب من المقاومة والصبر في حياة لا تهادن إلا المقاتلين والمرابطين حيال ضرباتها الموجعة.

أقدم لكم في أجندة معارفي الممتلئة بالبشر المختلفين والمميزين، الأستاذ علاء العطار رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي السابق، الذي عملت معه مديرًا للتحرير الفني في هذه المطبوعة خلال 3 أعوام كاملة مليئة بالنجاحات والأوسمة والنياشين والجوائز، إذ حصدت المجلة في عهده 10 جوائز في الصحافة، منها ما هو محلي ومنها الإقليمي والعربي، وهي فترة وجيزة لحصد هذه الجوائز.

ليس هذا ما يعنيني وأنا أتحدث عن علاء العطار وأقدمه لقارئ عادي، ربما يعرفه وربما لا يعرفه، فالجانب الإنساني في شخصية هذا الرجل ثري جدًا، ولا يدركه إلا من اقترب منه وتعامل معه واكتوى بنار غضبه وذاق حلاوة مرحه ومزاحه.

قاموس العطار

علاء العطار طاقة أمل مفتوحة على الدوام، فأنت خلال تعاملك معه هناك مجموعة من المصطلحات تجدها تخطر على بالك دون أن تشعر، ولا تسأل نفسك ما علاقتها ببعضها البعض، مثل: الصباح – القهوة – البهجة – الشوكولاتة – الزهور – الألوان – النجاح – الفوز – الفرحة – الغضب – العطلة. ولا أدري ما علاقة هذه المصطلحات ببعضها البعض، لكن ربما تكون هي حصيلة ما تستخدمه دائمًا خلال تعاملك مع هذا الرجل.

نرشح لك: فاطمة خير تكتب: أمينة النقاش ونبيل زكي.. شكرا

العطار رجل يحب الحياة، يقبل عليها ويشرب مرها قبل حلوها بحالة رضا وثبات عجيبة، فهو يجبرك على اعتناق مذهبه تجاه الحياة رغمًا عنك، إذ تجد نفسك متلبسًا بتقليده دون أن تشعر وأنت في أول أزمة تعتريك.

لا يمل العطار من بث كلمات الأمل والاستمرار والصعود والترقي طيلة حديثه معك، ومن يعرفه جيدًا يعي كيف يحب ضرب الأمثال الشعبية القديمة واجترار حكايات ريفية موروثة، تشعرك بعد سماعها أنك حزت كبسولات مضغوطة من الخبرات والتجارب العميقة.

اللقمة الحلوة

يعشق العطار القهوة متقنة الصنع، ويتلذذ بها مع قطع الشيكولاتة وإشعال سجائره التي لا تتوقف، ويستمتع بكل ما يدخل فمه من لقمة لذيذة مهما كانت بسيطة، فهو (أكيل) له ذائقة خاصة بالأطعمة والمطابخ الشرقية والغربية، ويحفظ أماكن المطاعم الغريبة صاحبة الأكلات الحريفة عن ظهر قلب، ويقدر الاستمتاع بالطعام وأنّه لذة لا تضاهيها لذة، فمنحها خلال عمله الصحفي مساحة كبيرة من الأفكار والصفحات والملفات، أهمها أنّه سمح لي بكتابة مجموعة مقالات عن فلسفة الطعام والحديث التفصيلي عن لذته وطرقه ومذاهبه.

وخلال أيامنا معًا كانت لنا صولات وجولات داخل مقر العمل وخارجه، كلها تضم قائمة من الأكلات الدسمة والأطعمة اللذيذة التي يقدّرها العطار ويحب الحديث عنها وعن تاريخها وكيفية صنعها.

كان يحب دخلة طبق (البسبوسة) والحلويات الشرقية لمكان العمل، وما يمنحه لكل الموجودين من طاقة وبهجة خاصة، ما شجعني على كتابة مقال بعنوان (البسبوسة سفيرة الفرحة وملكة جبر الخواطر).

وفي إحدى الأيام اختار يومًا خفيفًا في العمل والضغوط، وقرر أن (يعزمنا) على عدة أطباق مختلفة ومتنوعة من (البسبوسة) بالمكسرات، وأن نرتدي فيه ملابس خفيفة (كاجوال) لزوم الرحرحة، فاستمتع الجميع بهذا اليوم وسجلته كاميراتنا التي لا تنسى تلك الروح المحرضة على الحياة.

العطار والزهور

بينه وبين الزهور على اختلاف أشكالها حالة اقتراب وحب غريبة، فهو يفهم أنواعها وأشكالها وسقياها وتربيتها، ويعتبر باقة الزهور مقدمة ومدخل لعلاقته بأى إنسان، فكم من باقة لا تُنسى في حياة من حول علاء العطار حين وجدوها حاضرة في أحلى لحظاتهم وأروع إنجازاتهم، إذ كانت لحظة صعودهم لمنصات التتويج محاطة بباقات زهور علاء العطار، ترافقهم في صورهم التذكارية مع جوائزهم.

وباعتباري حصلت على أول جائزة يحققها عهد هذا الرجل الصحفي في مجلة الأهرام العربي، فقد كانت تجربتي مع الجائزة للتفوق الصحفي التي تقدمها نقابة الصحفيين كل عام لا تُنسى، بسبب هذا الرجل الذى حرضني على المحاولة وطرق الباب، إذ كنت يائسًا لا أفكر في فكرة التقدم لأى جائزة، وأن هذه الجوائز تُدبر نتائجُها بليل تحقيقًا لمصالح شخصية وعلاقات خاصة.

أبطل علاء العطار هذه الفكرة داخلي، وزرع في روعي الأمل الذي ساعدني أن أسهر ولا أنام طوال شهرين لتجهيز عدد تاريخي لن يتكرر عن النجمة الأسطورية اللبنانية (فيروز)، بعنوان (فيروز.. بدون مناسبة)، فقلب العدد الوسط كله رأسًا على عقب، وأحدث دويًا كبيرًا بعد حصولي على جائزة التفوق الأولى في الإخراج الصحفي.

وهنا جاء دور باقة الزهور التي وجدتها تسبقني نحو منصة التتويج، ووجدت الأستاذ علاء يقف خلفي لا أمامي منكرًا ذاته رافعًا من أسهمي، مخفيًا أي أثر له على أفيش الفيلم وقت عرضه الأول.

الغضوب المرح

وهذه معادلة أخرى عجيبة، حين تعرف أو أردت أن تعرف من يكون (علاء العطار)، فإذا أردت أن تستمتع بمرحه الدائم وإيفيهاته التي لا تتوقف ونكاته المتلاحقة، فعليك أن تتجرع مرارة المجهود المضني والضغط العصبي المتواصل وأنت تعمل معه.

يوم العطار يبدأ مبكرًا، فهو يعشق الصباح بنسماته وقهوته وإفطاره الدسم، ثم تبدأ ماكينة العمل في الدوران ويدور في فلكه الصحفيون بلا توقف حتى وقت غروب الشمس، إذ يعلن (العطار) انسحابه وخلوده للراحة ويطلق سراح من معه من زملاء في تمام السادسة مساء.

كان يقول دائما: “اوعى تيجي تقترح عليا فكرة أو تقولي نشتغل الساعة 3 العصر، لأن بطاريتي فضيت خلاص، لكن عايزني أفهمك وتفهمني تعالى لي الصبح اشرب معايا القهوة ونتكلم”.

نرشح لك: محمد حكيم يكتب: الأستاذ معتز الدمرداش

عاشق الإجازات

يحترم علاء العطار العمل ولا مجال للتهاون فيه، لذلك فهو يحترم بالتبعية العطلة ويقدسها ويفهمها ويعرف كيف تحقق نتائج مبهرة خاصة للمبدعين. فهل وجد أحدكم رئيسًا في العمل يحرضك على أن تأخذ عطلة كافية لتستعيد مستواك أو لياقتك الذهنية في العمل؟!، كان علاء يفعلها معنا حين يجد فتورًا أو أداءً رتيبًا مكررًا، وذات مرة قال لي: “اوعى تيجي وانت عيان أو حاسس إنك زهقان، عرفني عشان أديك إجازة علطول، ريح وارتاح وصفي ذهنك خااااالص وتيجي لي وانت رايق عشان آخد منك أحلى شغل”.

كان يرى أنّ الزميل الذي حصل على عطلة دخل في حرم مقدس ولا ينبغى إزعاجه بسؤال ما، أو تكدير صفو إجازته باقتحام خلوته وراحته تحت أي ظرف.

العطار.. والجنس اللطيف

قبل أن توحي هذه الجملة بأي معنى ملتبس أو غير حقيقي، فلابد أن أوضح ملمحًا مهمًا جدًا في فهم شخصية هذا الرجل، وهي كياسته ولطفه وعذوبة حديثه حين يتحدث مع السيدات، فهو يعرف كيف يدخل إليهن من مداخل ذهنية ونفسية تمكنه من تحويل أعدائه منهن إلى حميمات لا يتوانين عن قبول تكليفاته الصعبة وأفكاره الصحفية وتنفيذها مهما كانت مشقتها.

وكثيرًا ما لفت ذلك أنظار زملائه الرجال، وربما أثار حفيظتهم وحنقهم، خاصة حين يبدي اهتمامًا خاصًا وذوقًا رفيعًا في التعامل مع أي زميلة خلال أي اجتماع أو حفلة دونًا عن بقية زملائها الذكور، لكن ذلك مما يحسب له لا عليه، فهو يعي جيدًا أن الميزان النسائي المتقلب وأن كيفية الحفاظ على ولائه أمر صعب على أي رئيس في العمل.

صانع النجوم

خلال عمل هذا الرجل ومشواره الكبير في الصحافة، سواء في جريدة الأهرام أو مجلة نصف الدنيا التي ساهم في تأسيسسها مع الرعيل الأول الذي تتلمذ على يد الكاتبة الكبيرة سناء البيسي، أو مشواره في جريدة الشروق وعمله فيها مديرًا للتحرير، أو سنواته الطويلة والشاقة والمضنيّة في الصحف والمجلات الخليجية، ثم عمله النقابي ونضاله على السلم الأسود دفاعًا عن قضايا الصحفيين وحقوقهم، وأخيرًا رئاسته لتحرير مجلة الأهرام العربي، كل ذلك كان شاهدًا على جانب آخر من جوانب التميز في حياة هذا الرجل، ألا وهو (صناعة النجوم).

وأعني بصناعة النجوم هنا قصة تحويل (الفسيخ) إلى (شربات) كما يقول المثل الدارج، فكم من صحفي لا يمتلك موهبة الكتابة وتحول على يد علاء العطار إلى صانع ومشارك، ثم مؤدٍ لعمله بلا أخطاء، ثم مُتقن، ثم نجم من نجوم المهنة في تخصصه ومجاله.

كان يجيد فهم طاقات وملكات من حوله، حتى ذلك الصحفي المتمرد الذى يتخذ موقفًا دائمًا من العمل ولا يلتقى زملائه إلا يوم قبض المرتب، كان علاء يعرف كيف يجذبه نحو العمل ويضع بريقًا خاصًا على ما يثير فضوله، حتى إذا اقترب ووقع فريسة فهو يدخله طواعية لا جبرًا في نسق العمل ودولابه الشاق، وينضم للفريق ويصبح له نصيبًا فيما بعد من طبق البسبوسة بالبندق الذي نكافئ أنفسنا به بعد النجاح وإتمام المهام، وتلك الصورة التذكارية التي يحرص عليها العطار بعد كل إنجاز صحفي تسجيلًا للذكرى وحفاظًا على نجاح أصحاب العرق والجهد في هذا العمل.

(العطار) علاء.. التقاني والتقيته في خضم إحباطات وإخفاقات وحالة سلبية وقبول بالواقع مهما كان بالغ السوء، فمنحني من جرعة التفاؤل ما يجعله لي ولغيري عازفًا لـ(كونشيرتو) الأمل، لم ولن يترك آلة العزف من يده ما دام قلبه ينبض بالحياة.

نقدم لك: نهايات مأسوية لنجوم الفن..