مروان حامد كثير من الماس قليل من التراب

أندرو محسن

لم تكن الكثير من أفلام المخرج الراحل يوسف شاهين جماهيرية بالتأكيد، لكنه يبقى أحد ‏أعظم المخرجين في تاريخ السينما المصرية، لكن هل يجب أن تكون أعمال المخرج تخاطب ‏فئة معينة من الجمهور، أو غير جماهيرية حتى يكون المخرج مميزًا؟
يمكن أن نقول أن مروان حامد تخرج في مدرسة شريف عرفة، هذا الذي نجح في عدة ‏أفلام، خاصة التي عمل فيها مع المؤلف وحيد حامد، في تحقيق معادلة صناعة فيلم شديد ‏التميز في مستواه الفني، وفي الوقت نفسه قريب جدًا من الكثير من شرائح الجمهور.‏
عمل مروان حامد بالفعل مع شريف عرفة في عدة أفلام، منها فيلم ”اضحك الصورة تطلع ‏حلوة“ كمساعد مخرج، ولم يُخف التأثر به في تنفيذ مشهد ميدان طلعت الحرب الشهير في ‏أول أفلامه، متأثرًا بمشهد في نفس المكان من فيلم ”اللعب مع الكبار“.‏
البداية كانت مع ”عمارة يعقوبيان“ عام 2006، فيلم من تأليف وحيد حامد، عن رواية حققت ‏نجاحًا كبيرًا بالفعل، وأثارت الكثير من الجدل، وطاقم ممثلين كان مفاجآة في ذلك الوقت، ‏ولم يتكرر حتى الآن، وإنتاج أيضًا هو الأضخم في وقته. ثم يأتي الاختيار بعد هذا على مخرج ‏شاب يقترب بالكاد من عامه الثلاثين ليكون هذا العمل هو فيلمه الأول.‏

قدم حامد من بعده 4 أفلام هي: ”إبراهيم الأبيض“ 2009 و“الفيل الأزرق“ 2014 و“الأصليين“ ‏‏2017 و“تراب الماس“ 2018. نجح من خلال هذا العدد القليل من الأفلام في أن يكون ‏لاسمه مكانة جيدة، وأن ينتظر متابعو السينما الفيلم لأنه من إخراج مروان حامد، مثلما ‏ينتظرونه لاسم الممثل أو الممثلة المفضلين.‏

نرشح لك: رأي كندة علوش في فيلم “تراب الماس”

‏ خلال هذه السطور سنحاول إلقاء نظرة سريعة على بعض خصائص مروان حامد التي ‏جعلته يحتل هذه المكانة.‏

 

الإحساس بطبيعة المشهد

ربما كان ‏‎”‎عمارة يعقوبيان“ مدفوعاً بالإنتاج والسيناريو والأسماء المشاركة، سينال قدرًا من ‏النجاح بغض النظر عن المخرج، لكن مروان حامد نجح في صناعة فيلم يبقى في الذاكرة، ‏من أوائل ما يميز أسلوبه هو جعل المشاهد تبدو بسيطة، وغير متكلفة، بينما هي في ‏الحقيقة وراءها رؤية حقيقية للمخرج.‏

إذا أخذنا المشهد الشهير ”احنا في زمن المسخ“ من الفيلم، سنجد أنه يضم عادل إمام وهند ‏صبري (زكي الدسوقي وبثينة)، ومونولوج كتبه وحيد حامد والمكان هو ميدان طلعت حرب ‏في وسط البلد، من السهل تخيل خروج هذا المشهد على الشاشة بشكل جيد، ولكن أين ‏بصمة المخرج؟.

ينقسم هذا التتابع في الفيلم إلى 6 لقطات، سنتناول الثلاثة الأولى منها. يبدأ المشهد بلقطة ‏عامة تتحرك فيها الكاميرا من أعلى تمثال طلعت حرب للأسفل، يؤسس خلالها للمكان، بينما ‏يتحرك الممثلان باتجاه الكاميرا، يتحدث زكي الدسوقي عن سبب عدم سفره حتى نصل إلى ‏‏”البلد دي كانت أحسن من باريس“. ننتقل بعدها للقطة واسعة، تظهر جزءًا من التمثال ‏والممثلان يواصلان تحكرهما باتجاه الكاميرا، والدسوقي يواصل حديثه عن ذكريات البلد، ‏حتى تتكلم بثينة للمرة الأولى وتحذره من نظرات فننتقل للقطع الثالث مع عبارة ”يبصوا ‏علينا ليه“، ونصل إلى لقطة متوسطة مع حركة دائرية للكاميرا حول زكي وبثينة تتوقف مع ‏عبارته الشهيرة ”احنا في زمن المسخ“.‏

قد يبدو ما ذكرناه سابقًا تقسيمًا بسيطًا للمشهد، لكن في الحقيقة أن أحد مميزات أسلوب ‏مروان حامد هو التصميم الذي يبدو بسيطًا للقطات لكنه يخدم المعنى، كما يقدم صورة ‏مميزة.‏

نلاحظ أنه في كل مرة كان هناك استخدام مختلف لحجم اللقطة، ولحركة الكاميرا أيضًا، الأمر ‏ليس مجرد نقل لما يحدث، لكن الأهم هو توقيت اختيار تغيير حجم اللقطات، وبالطبع يجب ‏أن نذكر دور المونتير خالد مرعي. الكاميرا تقترب من الشخصية التي تتابعها، بتدريج يناسب ‏تدرج الحوار، حتى تصل إلى أقرب وضع لها عندما يقول زكي الدسوقي أهم عبارة.‏
وبينما يلجأ مخرجون آخرون إلى المبالغة في حركة الكاميرا، نرى الحركة هنا سلسلة، الأكثر ‏لفتًا للنظر هي الحركة الدائرية، لكن هذه الحركة هنا لها تبريرها، فزكي الدسوقي يتحدث عن ‏المسخ الذي تحولت له هذه المدينة التي يقف في وسطها، ولا ينسى المخرج أن الكاميرا ‏يجب أن تتوقف عند النطق بأهم جملة في المونولوج ”احنا في زمن المسخ“، فلا داعي ‏للبهرجة البصرية دون الحاجة إليها.‏

يعود هذا لحساسية المخرج للمشهد، فهو يختار الشكل الأنسب لخدمة المضمون، وليس ‏لصناعة كادرات جميلة بدون معنى، وهو ما نلاحظه في فيلمه التالي.‏

من ”إبراهيم الأبيض“، نقف عند مشهد لقاء حورية وإبراهيم (هند صبري وأحمد السقا) في ‏عربة القطار، المشهد الذي يعرض لنا تفجر مشاعر الحب بينهما، يأخذنا المخرج في لقطة ‏واحدة طويلة تمتد إلى ثلاث دقائق ليتابع هذا التطور الذي يحدث تدريجيًا، علاقة الحب تولد ‏أمام أعين المشاهد في مكان غريب، هو عربة قطار مهجورة، وتتحرك الكاميرا بانسيابة ‏داخل العربة وخارجها لتزيد من لهفتنا لمعرفة ما سيحدث لاحقًا، وتمنح المشهد ككل طابعًا ‏مثيرًا يليق بالشخصيتين اللتين تقتربان من بعضهما بحذر.‏

استخدام اللقطة الطويلة هنا كان الأنسب، ولو كان المخرج لجأ لتقطيع المشهد بالتأكيد كان ‏سيفقد الكثير من تأثيره.‏
مفردات الإخراج وأدواته متاحة لكل مخرج، المهم هو في كيفية استخدامه وتوظيفه لهذه ‏الأدوات.‏

عوالم قديمة زيارة جديدة

من الأمور التي تؤخذ على مروان حامد هو تكراره للتعاون مع أحمد مراد، لكن يمكن أن ‏نجد تفسيرًا لهذا إذا نظرنا إلى الأفلام الخمسة التي قدمها.‏

يرغب حامد دائمًا في زيارة عوالم مختلفة وتجربة أفكار جديدة. بينما كان فيلمه الأول يتابع ‏القاهرة ويؤرخ لها ولأشخاصها في مطلع الألفية الثالثة متخذًا من وسط البلد مكانًا للأحداث، ‏ينتقل بفيلمه الثاني ”إبراهيم الأبيض“ لقصة حب خاصة جدًا في منطقة عشوائيات، ويجرب ‏عالم التشويق مع بعض الفانتازيا في ”الفيل الأزرق“، و“الأصليين“ ترك له المساحة الأكبر ‏في زياة أماكن وأزمنة لم يزرها من قبل داخل فكرة البحث عن الهوية، وأخيرًا ”تراب ‏الماس“ الذي ينتمي إلى أفلام الجريمة.‏
ما أتاحته له سيناريوهات مراد هو تجربة هذه العوالم المختلفة بشكل لم يكن ربما ليتحقق ‏في سيناريوهات أخرى، ولا نعني بالتأكيد أن هذا مبرر لعيوب السيناريوهات، ولكننا نتابع ‏رغبة المخرج في التغيير.‏

 

نقف مرة أخرى عند ”إبراهيم الأبيض“ والذي يمكن أن نعده أفضل أفلامه، وكتب له ‏السيناريو بشكل مرهف عباس أبو الحسن. تعددت الأفلام التي تتناول قضايا العشوائيات ‏وسكانها في العقد الأول من الألفية، غلب عليها الطابع الميلودرامي والبكائيات وأحيانًا ‏الأكشن، وربما كان هذا مصير السيناريو إذا وقع في يد مخرج آخر، لكنه نجح في الإمساك ‏بتفاصيل السيناريو ليقدم لنا قصة حب مأساوية فريدة.‏

وفي ”الفيل الأزرق“ شاهدنا واحدًا من أنضج أفلام التشويق، في السنوات الأخيرة، إذ جاء ‏الفيلم مُخلصًا إلى نوعه إلى حد كبير، في استخدام الإضاءة والإيقاع الأسرع للقطات الفيلم، ‏باستثناء بعض المشاهد الحوارية الطويلة.‏

الحكي بالصورة

رغم وجود الكثير من المآخذ على فيلمه ”الأصليين“، إلا أنه كان أكثر الأفلام وضوحًا لفكرة ‏الحكي باستخدام الصورة، اختلف النقاد على التقييم النهائي، لكن أغلبهم اتفقوا على تميز ‏اللقطات وقدرة مروان حامد على استغلال الأماكن وتقديم كادرات مميزة.‏

يجب أن نؤكد أن الفيلم الجيد هو الذي لا تنفصل فيه الصورة عن المضمون، وهو ما حرص ‏عليه المخرج في أفلام أخرى، لكننا توقفنا عند محطة ”الأصليين“ لاستعراض جانب آخر من ‏أسلوبه، وهو الحكي بالصورة.‏

في هذا الفيلم، بينما تتكلم الشخصيات عن ماضٍ ما وقعت به أحداث تؤثر على الحاضر، لا ‏يكتفي المخرج بالتوقف عن الشخص الذي يحكي، لكنه يقدم لنا الحكاية داخل الفيلم، مرة ‏بالاستعانة بجرافيك متقن ليقدم لنا لقطات تعود إلى عصر الفراعنة، لا نبالغ إن قلنا أنه من ‏النادر جدًا مشاهدة مثلها في السينما المصرية، والمقارنة مع فيلم ”الكنز: الحقيقة والخيال“ ‏الذي دارت ثلث أحداثه في العصر الفرعوني ستكون فيها الغلبة لـ“الأصليين“.‏

الأمر يتكرر عندما تُروى حكاية بهية من التراث الصعيدي، وهذه المرة يجرب مروان حامد ‏شيئًا آخر فيقدم لنا القصة على الشاشة في صورة فيلم صامت بنفس هيئة الأفلام القديمة، ‏ليجرب شيئًا جديدًا.‏

هذا الأسلوب بدأ معه في أول مشاهد فيلمه الأول، الذي كنا نتابع فيه تاريخ عمارة ‏يعقوبيان، ونشاهد اختلاف طبيعة الحياة في لقطات قصيرة تنتقل بين الأبيض والأسود ‏والألوان.‏

وهو ما استمر معه حتى أحدث أفلامه ”تراب الماس“ الذي يستخدم فيه لقطات الأبيض ‏والأسود لتقديم ماضي شخصية الأب حسين الزهار، ثم تدخل الألوان تدريجيًا، ونتابع لقطات ‏متتالية تستعرض حياته، بينما ابنه طه يقرأ في مذكراته.‏
مروان حامد لديه رغبة دائمًا في تقديم حكايا بصرية بجانب الحوار الذي نستمع إليه، وإن كان ‏يمكنه أن يستغني عن الحوار أيضًا في بعض الأحيان، وهو ما سيعطي الصورة غنىً أكبر.‏

نرشح لك: تراب الماس.. 16 اختلافًا بين الفيلم والرواية

‏ ‏
الارتباط بالمكان

يتحدث هيتكشكوك عن استغلال المكان في فيلم الشهير ”‏Rear Window‏“ (النافذة الخلفية) ‏فيذكر أنه استخدم لطقات متفرقة للنوافذ التي يراقبها بطل العمل، واحتفظ باللقطة العامة ‏للمكان في نقطة معينة من الفيلم ليستغلها ويكون لها وقعًا أكبر.‏

بينما كان للمكان أهمية بحكم ارتباطه القوي بالسيناريو والشخصيات في ”عمارة يعقوبيان“، ‏لكننا نجد أن حضور المكان بقوة استمر في أفلام مروان حامد التالية.‏

في ”إبراهيم الأبيض“ تم بناء ديكورات المنطقة العشوائية لتناسب الفيلم، يستعرض الفيلم ‏تدريجيًا هذه المنطقة من خلال المطاردة في بداية الفيلم، وعملًا بنصيحة هيتشكوك، يترك ‏اللقطات العامة، من زاوية علوية لحين ظهور عبد الملك زرزور، سيد هذه المنطقة، من جهة ‏شاهدنا المنطقة بأكملها، ومن جهة أخرى نشاهده هو أعلاها في معنى واضح.‏

الزنزانة التي كان يُحتجز فيها شريف (خالد الصاوي) في ”الفيل الأزرق“ كانت مسرحًا لجزء ‏كبير من تتابعات النهاية ليس فقط كمكان ولكن جدرانها كانت تستخدم بشكل واضح للكتابة ‏عليها، هكذا نجد المخرج يعرفنا على المكان بشكل واضح مبكرًا بلقطة من زاوية علوية ‏تكشف لنا تكوين الغرفة، حتى نستطيع تفهم حركة الممثلين داخلها بعد هذا المشهد، ‏بالإضافة لتقديم أحد أشكال الحصار الذي يقع داخله بطل العمل.‏

يستمر تأصيل المكان داخل الدراما في ”تراب الماس“ الذي كان الشارع الذي تسكن فيه ‏الشخصية الرئيسية موضعًا للأحداث، ولهذا يهتم بإظهار هذا الشارع في أكثر من لقطة ‏وباستخدام أكثر من زاوية، منها أثناء اصطحاب طه لوالده على الكرسي المتحرك في الشارع ‏إلى الفيلا المقابلة، فنتعرف على المحلات الموجودة وطبيعة المكان.‏

بالإضافة إلى منزل طه الذي كان أيضًا مسرحًا مهمًا للأحداث، يمكن بمرور الفيلم استنتاج ‏جغرافية المنزل وتكوينه، وهذا نظرًا لاستخدام اللقطات وزوايا التصوير التي تكشف البيت ‏من الداخل، وكأن المشاهد يزوره المكان بالفعل.‏

 

نرشح لك: إيرادات “تراب الماس” تتجاوز الـ7 ملايين جنيه في 7 أيام