هل تُصلح القوى الناعمة ما فشل فيه التحديث والتنوير؟!

بقلم: محمد سيد ريان 

لم أفأجأ بالخبر الذي أعلنته اللجنة العليا المنظمة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، أن يكون شعار المعرض “القوى الناعمة.. كيف؟”، وذكرت في البيان الصادر عنها أن القوى الناعمة هي السلاح الأقوى لمواجهة كل أشكال التطرف، وسوف تناقش فعاليات المعرض كل ما من شأنه تفعيل دور القوى الناعمة على أرض الواقع، بما فى ذلك اقتصاديات الثقافة وبناء جسور مع الثقافات الأخرى، في محاولة لدراسة تفعيل دور القوى الناعمة بمصر في بناء مستقبل مصر.

والسبب أنني انشغلت منذ فترة طويلة بموضوع القوة الناعمة، وسبق لي نشر دراسة عن القوة الناعمة والمستقبل العربي بأحد المراكز البحثية العربية الكبرى، لذلك وجب توضيح الكثير من الأمور وإزالة الغموض واللبس عند الكثيرين من المثقفين والمهتمين.

القوة الناعمة هي مفهوم صاغه المفكر الأمريكي جوزيف ناي، من جامعة “هارفارد”، لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع. في الآونة الأخيرة، تم استخدام المصطلح للتأثير على الرأي الاجتماعي والعام وتغييره من خلال قنوات أقل شفافية نسبياً والضغط من خلال المنظمات السياسية وغير السياسية.

وقد صاغ جوزيف ناي، هذا المصطلح في كتابه الصادر عام 1990، بعنوان “مُقدرة للقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية”. ثم قام بتطوير المفهوم في كتابه الصادر عام 2004، بعنوان “القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية”؛ ويستخدم المصطلح حالياً على نطاق واسع في الشؤون الدولية من قبل المحللين والسياسيين.

القوة الناعمة هي ”القدرة على التوصل إلى الغاية المطلوبة من خلال جذب الآخرين، وليس باللجوء إلى التهديد أو الجزاء. وهذه القوة تعتمد على الثقافة، والمبادئ السياسية، والسياسات المتبعة. وإذا تمكنت من إقناع الآخرين بأن يريدوا ما تريد، فلن تضطر إلى إنفاق الكثير بتطبيق مبدأ《العصا والجزرة》لتحريك الآخرين في الاتجاه الذي يحقق مصالحك”.

أما القوة العاتية -حسب وصفه- فهي “التي تعتمد على الإكراه، فهي تُستَمَد من القوة العسكرية والاقتصادية. وتظل لهذه القوة أهميتها الحاسمة في عالم عامر بدول تهدد الآخرين، ويعج بالمنظمات الإرهابية. لكن القوة الناعمة ستكتسب المزيد من الأهمية في منع الإرهابيين من تجنيد أنصار جدد، وفي تحقيق التعاون الدولي الضروري لمواجهة الإرهاب”.

نأتي هنا لسؤال مهم: ما هي مصادر القوى الناعمة؟! اتفق معظم المنظرين والمفكرين الذين تبنوا نظرية القوى الناعمة على أن الفنون، والتقدم التكنولوجي، والعلامات التجارية الرائدة، والجامعات العريقة، ودور العبادة، ومقدار ما تحصل عليه الدول من جوائز نوبل، والمجهودات العلمية والبحثية، والموسيقى، والسينما، ومواقع الإنترنت والأطعمة الشعبية الشهيرة، تعد مصدرا من مصادر القوة الناعمة.

الأهم من هذا، هو ما قامت به مؤسسة بورتلاند للاتصالات -وهي مؤسسة تعمل بالاستشارات الإستراتيجية للحكومات والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات للتواصل بشكل أكثر فاعلية مع الجمهور العالمي، حيث قامت بعمل مؤشر لقياس القوى الناعمة لدى دول العالم؛ واعتمدت “بورتلاند” على قياس القوى الناعمة للدول بتحديد درجة من 100، بناء على 6 أسس للسمعة والنفوذ وهي:

1. الحكومة وتقييم جودة المؤسسات السياسية في البلاد.

2. الثقافة.. أي مدى الانتشار الثقافي للدولة عالميًّا.

3. المشاركة العالمية والسياسة الخارجية وقوة العلاقات الدبلوماسية.

4. التعليم والسمعة العالمية لنظام التعليم العالي الخاص بالدولة.

5. الاقتصاد ومدى جاذبية النظام الاقتصادي للدولة واجتذابه لمشاريع المستثمرين حول العالم.

6. التواصل الرقمي للدولة مع العالم.

ويستعين المؤشر في تقييمه للدول ببيانات من “الفيسبوك” عن تأثير الدولة عبر الإنترنت، مما يؤكد على أهمية الإعلام الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي في موضوع القوى الناعمة.

الأهم من كل التفاصيل السابقة أنه توجد دول عربية انتبهت فعلا للقوى الناعمة، ففي 29 أبريل 2017، أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، تشكيل مجلس القوى الناعمة لدولة الإمارات العربية المتحدة، والذي يهدف لتعزيز سمعة الدولة إقليميا وعالميا وترسيخ احترامها ومحبتها بين شعوب العالم، ويختص برسم السياسة العامة وإستراتيجية القوى الناعمة للدولة، وبعدها بدأت دول أخرى -مثل السعودية- التفكير في عمل مجالس مشابهة على غرار النموذج الإماراتي.

نعود لمصر في نقطة مهمة، وهي الأزمة الحضارية التي نعانيها منذ فترة طويلة، ربما تعود لقرون مضت. وعلى الرغم من موجات التحديث والنهضة طوال القرن التاسع عشر، التي حملها الطهطاوي وعلي مبارك وغيرهم من المصريين، والأفغاني والكواكبي من غير المصريين الذين قطنوا مصر، لم تأت بثمارها نتيجة انتشار الجهل والأمية والفقر، ثم كانت الموجة الثانية للإصلاح مع مشروع التنوير على يد طه حسين، ومصطفى عبد الرازق، وأمين الخولي وغيرهم، ولكن تلاميذهم سقطوا في ولاء السلطة فخرج المشروع عن هدفه ليصبح تيارا أمنيا وليس ثقافيا وواجهة شكلية لتجميل ديكور الحكام مما أدى إلى زيادة الأزمة لتصل لذورتها الآن في ظل انتشار ظاهرة الإرهاب والتطرف الديني.

من هنا تأتي فكرة القوى الناعمة كطريق ثالث لبناء ما تم هدمه وإصلاح ماتم كسره؛ الأمل كبير في إستدعاء نماذج ملهمة وليس عبادة أصنام.

علينا الاستفادة من الأساليب التكنولوجية والشبكات الاجتماعية كوسيلة للربط والوحدة في ظل التنوع، فنحن لدينا فرصة ذهبية وهي تواجد الشباب بصورة كبيرة على الإنترنت، وهم طاقة يمكن استغلالها بصورة جيدة، ليشكلوا حائط صد ضد كل محاولات التشتيت والتفرقة، بعيداً عن قضايا الأمة الحقيقة والمصيرية؛ وحين نستطيع تجاوز تلك الخلافات، نستطيع تحقيق القوة الحضارية لمصر  .