وائل الطوخي يكتب: "زيورخ الجديدة" المهنية كما ينبغي أن تكون

اذا كنت تبحث عن المهنية الصحفية فلن يتجاوز المصطلح، الكلمة التى توحى بالتزام الحياد بين الأطراف المتنازعة، وتقديم معالجة بشكل موضوعى، ولكن مهلا، هل هوى النسيان بالذاكرة عن صحيفة” ” نوى زوريكر زايتونج” أو-زيورخ الجديدة- السويسرية الأصدار، إلمانية اللغة، التى احتلت المركز الأول بين 23 صحيفة على مستوى العالم عام 1982 من حيث تغطية الأخبار الخارجية، ظهرت عام 1780 ومستمرة حتى الآن،و محرريها معظمهم من الحاصلين على الدكتوراه واستطاعت وحدها مواجهة هتلر دون خوف.!

عندما تتابع “زويرخ الجديدة” تجدها ظاهرة تستحق المحاكاة خصوصا فى المشهد الصحفى المصرى، فهى تتبع سياسة تحريرية تقوم على عدم جدوى الحقيقة فى غياب التفكير البشرى وإداركه للأحداث، فلا تحدد لمحرريها مساحة المقالات والموضوعات بل تتركه لتقديرهم الشخصى،ولا تعبأ كثيرا بذوق الجمهور وترفض أن تهبط إلى مستواه. أما تغطيتها التى اتسمت بالموضوعية والحياد فجعلت الجميع يقبل علي قراءتها،حتى من رفضوا سياساتها التحريرية مثل هتلر.

وائل الطوخي

قمة التحدى ستراه فى موقف الصحيفة الذى اتخذته من النازية خلال الحرب العالمية الثانية ,فلم يؤثر بها رأس المال أو مصالح رجال الأعمال، مما دفع هتلر إلى طرد مراسلها من برلين ومنع دخوله مرة أخرى، بل ومنع مواطنيه من قراءتها، ولكنه فى الوقت نفسه ألزم وزارة الخارجية الإلمانية على تجديد اشتراكها فيها، فقال” فون روبنتروب” وزير الخارجية الألمانى وقتها ” أن الوزارة لاتستطيع التوقف عن أخبار تلك الصحيفة وإلا تعذر فهم الجوانب الغامضة فى السياسة الدولية”، فكانت الوزارة تتلقى حوالى200 نسخة يوميا، وكان هتلر يطلب قصاصاتها رغم الصراع بينهما لقوة أسلوبها التحريرى ودقة معلوماتها بالشأن الدولى
وعندما تطلق لخيالك العنان يمكنك وصف الصراع بين “زيورخ الجديدة” وبين هتلر، بأنه صراع صحيفة أمام نظام كامل، بدأ عام 1930 فى ظل توهج النظام النازى، ولكن بعد مرور أكثر من 87 عاما، اختفى هتلر ونظامه وبقيت الصحيفة التى اعتبرت أن الحقيقة وحدها مبتغاها لا تراجع عنها.

فعندما كتب مراسل الصحيفة عن أحد المظاهرات الصغيرة فى ألمانيا:”أن النازية طوفان سيظل يتدفق نفوذه فى العالم، ذا ميول عدوانية”، ثم بعدها بعامين 1932 أكدت الصحيفة أن هتلر يمثل التحدى المباشر لكل المبادئ الإنساية، وهاجمت منظومة الانتخابات التى أوصلته إلى الحكم، منع هتلر الصحيفة من الدخول للأراضى الألمانية فى سبتمبر 1933، ثم فى عام 1934 منعها بشكل نهائى حتى وفاته فى 1945 بعد انتقاد شعار النازية “الصليب المعقوف”.

كما يمكنك اكشاف مدى ضعف حجة صحفيو العصر الحاضر بأتباع سياسة تحريرية بعينها والالتزام بما يقره ولى الأمر ، عندما تعقد مقارنة ظروف صحيفة “زيورخ الجديدة” خلال الحرب العالمية الثانية، وموقف الصحف بوضعها الحالى،وليس بيدها شئ أمام إجراءات المنع والمصادرة والضغط، فالصحيفة السويسرية لم تخش من التسبب فى أزمات دبلوماسية لسويسرا- التى أعلنت حيادها خلال الحرب- بسبب إصرارها على اعتناق اسمى صور الموضوعية الصحفية ، واعلى قيم للمهنية، فنشرت فى عام 1939 هجوما شديدا على هتلر منه :”أن كارثة أوروبا تقع مسئوليتها على رجل واحد بعكس الحروب السابقة وهذا الرجل معروف بالاسم”، مما آثار غضب الألمان مطالبين بأن تمنع الحكومة السويسرية الصحيفة وإلا تعرضت لما لا يحمد عقباه.

ولكن سويسرا أعلنت بشكل واضح أن “حيادها يسرى على الحكومات والأفراد، ولكنه يترك الآراء حرة فى التعبير “، الأمر الذى آثار استهجان هتلر فهدد بمنع الفحم الألمانى عن سويسرا، وعلى الرغم من معاناتهم من نقص الطعام وبرودة الجو، لم تتوقف الصحيفة، فلم تغض البصر عن الغارات الألمانية المتكررة على المصانع الإنجليزية والمدنيين، أو الإجراءات القاسية التى يتم اتخاذها ضد البلاد المحتلة فى أوروبا.

دهشتك من ثبات الصحيفة على موقفها فى مواجهة النازية تتفق مع سعى هتلر نحو غلقها بأى ثمن، حتى لو كان بالطرق غير الدبلوماسية مثل محاولة الملحق الألمانى بسويسرا عزل رئيس تحرير الصحيفة عن طريق جماعات الضغط السويسرية، ووصف رئيس تحرير الصحيفة وغيره بأنهم يقودون البلاد إلى طريق الخطر، ولكنها استمرت حتى بعد احتلال الألمان لسويسرا عام 1943.

حروب الصحيفة لم تتوقف بعد الحرب العالمية الثانية، فالحرب الباردة بين روسيا وأمريكا كانت لها نصيب فيها بعد أن صممت على اتخاذ موقف معادى لروسيا وحلفاؤها خوفا من أن تكون الشيوعية هى البديل الجديد لهتلرواعتبرت أن دورها وطنى أكثر منه مجرد رأى، فالثورة البلشفية التى قام بها فلاديمير لينين الرئيس الروسى عام 1917 تسببت فى هزة عنيفة للمجتمع السويسرى والصحيفة لا تريد تكرار الأمر,فبقيت تقاوم هتلر ومن بعده روسيا رافعة راية المهنية والموضوعية، حتى رحلوا بلا رجعة

وفى عام 1982 لا عجب من تحويل الصحيفة إلى شركة مساهمة لا يمتك الفرد بها أكثر من 3% حتى لايوجهها لمصالحه، ولم تكن تنشر أكثر من 3 صور بكل عدد تصدره، لأن جل اهتمامها يذهب الى تحليل الأخبار وتصنيف الأحداث المختلفة والتعليق عليها اكثر من الأخبار نفسها.