الموسيقار إبراهيم رجب.. نحن من نستحق عقاب الرحيل

فاتن الوكيل

للمرة المليون، نُردد دعوات الرحمة والمغفرة المصحوبة بعتاب على عدم الاهتمام إلا بعد الموت. أصبحت جمل الغضب من نسيان وتجاهل الفنانين في حياتهم، مستهلكة إلى حد كبير، الجمل مكررة، الغضب مكرر، ولا جديد. وهو المشهد الذي أعيدت كل لقطاته “بحذافيرها” منذ عدة أيام مع وفاة الموسيقار الكبير إبراهيم رجب، وما زاد الألم، التجاهل الذي لاقاه حتى بعد وفاته، إلا من محبيه على مواقع السوشيال ميديا، فلا تغطية تلفزيونية مؤثرة ولا مداخلات هاتفية ولا بث مباشر للجنازة، إلا بعض التقارير الصحفية المعدة سريعا للنشر على غرار “5 أغنيات لحنها الموسيقار الراحل أشهرها خلي بالك من زوزو”.

نعم هو ملحن أغنية “خلي باك من زوزو”، لكن قيمته أكبر من هذه الأغنية وحتى اللحن الذي كتب باسمه. توفى “رجب” في 30 إبريل الماضي في منزله بـ”سكة راتب” بالحلمية الجديدة. مرت أيام ولم نجد أي نعي يليق بالراحل، إلا من بعض المنشورات التي خرجت من أفراد عائلتي صلاح جاهين وفؤاد حداد، عبر فيسبوك، بحكم الذكريات والأيام والمواقف والأغاني التي جمعتهم به.

بالنظر إلى خريطة الأغاني التي لحنها إبراهيم رجب نجد تنوعا كبيرا في المزاج الفني لديه، لكنه تميز أيضا بالطاقة الإيجابية غير المحدودة التي أطلقها من خلال أغانيه الوطنية، حتى عقب النكسة، وخلال فترة حرب الاستنزاف، تواجد وسط المقاومين بعوده يردد الألحان، وفي الصورة التالية نجده بجواره شاعر المقاومة في ذلك الوقت، كابتن غزالي، الذي توفى أول إبريل الماضي.

 

لحن “رجب” العديد من الأغاني للمجموعة، مفضلا صوت الجماعة على صوت الفنانين الكبار، ربما لأنهم أصدق، وهو ما اتضح جليا في أغنية “تعيشي يا بلدي يا بلدي تعيشي”، التي لم يعرف كثيرون أنها من ألحانه إلا بعد أن توفى. وتميزت أغانيه الوطنية بأنها تليق لأن تكون أغاني شعبية، ليس بالمفهوم الردئ حاليا، لكن بمعنى أنها قادرة على أن تصل إلى أكبر شريحة شعبية، وأن تُخلد في الذاكرة لسنوات طويلة، حتى وإن جارت ذاكرتنا المحدودة على أسماء صناعها.

 

وكما أشرنا إلى الصورة السابقة التي جمعت إبراهيم رجب مع كابتن غزالي في أثناء حرب الاستنزاف، لا ننس أشهر أغنية صُنعت في حب مدينة السويس، عندما غنى الراحل محمد حمام، “يا بيوت السويس يا بيووت مدينتي استشهد تحتك وتعيشي انتِ” من ألحان ملحنا الراحل منذ أيام قليلة.

حتى وقت قريب كان لحن “والله لبكرة يطلع النهار” لإبراهيم رجب يُردد في أرجاء ميدان التحرير، وقت ثورة 25 يناير. في الأصل الأغنية دعوة لمقاومة الاحتلال، نتوعده بعودة النهار وغيطان الفلاحين التي ستمتلئ بالغلال والشمس “اللي هتيجي من ورا الجبال”، والآن نُرددها في وجه أي صعوبات اجتماعية أو سياسية، أصبحت الأغنية التي ألف كلماتها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، “أيقونة” أمل حقيقية، وقد انتشرت في الأصل بصوت الفنان محمد حمام، وغنتها بتميز أيضا الفنانة عزيزة عمر.

 

 

لا يعني تفضيل “رجب” لغناء المجموعة أنه ابتعد عن الفنانين الكبار، فعندما اجتمع عبد الحليم حافظ وعبد الرحمن الأبنودي وإبراهيم رجب، خرجت إلينا أغنية “يا بلدنا لا تنامي”.

ومع مطرب مختلف، كان لإبراهيم رجب لحنا وطنيا آخر. فإذا كان المشوار الفني القصير للفنان ماهر العطار قد جمع بعض الأغاني المميزة، فبالتأكيد أغنية “ياما زقزق القمري على ورق الليمون” الوطنية، من أفضلهم.

انتهت المعارك الحربية على الأرض، لكن رسالة إبراهيم رجب لم تنته، بل تشكلت في هيئة أخرى، بديعة ومميزة وخالدة، فمن شاهد مسلسل “علي الزيبق” كلما أعيدت حلقاته، لا يمكنه أبدا أن يُفوت فرصة الاستماع إلى أغاني المقدمة والنهاية، فالمسلسل الذي حكى قصة “الزيبق” الشعبية، كان اللحن مجسدا لهذا “الجو” الشعبي الأسطوري الساخر من “السلطان عالي البنيان” لكن في النهاية وبهذا الفن الراقي، يبقى المصري مصري والمملوك مملوكي.

 

https://www.youtube.com/watch?v=YfpH47y70ds

استمرارا لأجواء الحكايات الشعبية، كان إبراهيم رجب متواجدا في ألحان فيلم “شفيقة ومتولي”، فبعيدا عن أغنية “بانو بانو” التي لحنها كمال الطويل، لحن “رجب” باقي أغاني الفيلم، وهم “ياي ياي” و”يا دلع في دلع” و”المولد”. واستمرار مع الأفلام، لحن “رجب” الأغنية التي لا ينساها أحد للفنان أحمد زكي، في فيلم “البيه البواب”.. وبالفعل تخيل “رجب” نفسه وهو يلحن أغنية لشخص سكران، حتى خرجت “الناس كتيرة ليه” بهذه الطبيعية والمرح والأسى أيضا على هذا الصعيدي الذي تلون بضجيج القاهرة وانحرافاتها.

 

“يلا بينا تعالوا نسيب اليوم في حاله وكل واحد مننا يركب حصان خياله”.. علامة أخرى في مشوار الكبير إبراهيم رجب. كل جملة في الأغنية تحمل حكمة ما، انتشرت بشكل كبير ليس فقط  بسبب الكلمات الرائعة ولا الأداء الصادق من محمود عبد العزيز، لكن بسبب اللحن الذي أبقاها حية حتى الآن.

أغاني أخرى مثل “مجاريح” لمحمد رشدي، و”ولا غنى ولا صيت” لمحمد قنديل، من أشعار فؤاد حداد، وأغنية “شاعر عباد الله”. كانت من نصيب ألحان إبراهيم رجب.

 

https://www.youtube.com/watch?v=AjX2Bo_CPAU 

 

في مجال مختلف تماما عن الأغاني الوطنية وأغاني الأفلام، كان لإبراهيم رجب علامة مميزة في عالم أغاني الأطفال، من خلال تلحين أغنية “أبريق الشاي”، التي غناها سيد الملاح.

 

https://www.youtube.com/watch?v=VnVrHIsTh84

لم نجد حوارات تلفزيونية مع الملحن الكبير الذي غاب عنا منذ عدة أيام فقط، لكنه ظهر مع صديقيه “جاهين” و”حداد” في برنامج “أهلا وسهلا”، الذي كان يقدمه على شاشة التلفزيون المصري كل من طارق حبيب وعصمت شفيق، وقام خلال الحلقة بغناء أبرز أشعار فؤاد حداد، حتى التي لم يلحنها مثل “الأرض بتتكلم عربي”.