هؤلاء ساهموا في "تكوين" أسامة أنور عكاشة

سما جابر

من رحم المعاناة يولد الإبداع… المقولة التي يمكن تطبيقها على حياة الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، الذي لم تخرج إبداعاته للناس في يوم وليلة، لكنها بدأت معه منذ الثامنة من عمره، بعد وفاة والدته.. حيث أرجع “عكاشة” كل ما قدمه من إبداعات وكتابات شكلت تاريخ وذكريات المشاهدين المصريين، إلى هذه اللطمة التي تلقاها في سن صغير.

يقول الكاتب الراحل في مقال نشره في مجلة الهلال في عدد أكتوبر من عام 1996 بعنوان “سنوات تكويني صاغت ملامح الدراما التلفزيونية: “لم أعد الطفل الذي كان.. وانهار جزء من كياني، أحسست بالنقص، فلم اعد مكتملًا كباقي الأطفال حولي، فانزويت عنهم وعزلت نفسي.. فلم أعد أشاركهم ألعابهم وشجاراتهم ومتع عالمهم الملون المليء بمباهج الخيال ورؤى الأحلام وحواديت الشطار وحسناوات التبات والنبات.. ومن خيوط أحزاني وإحباطاتي نسجت شرنقة أختبئ فيها عن عالم غادر لمأعد أحبه وقررت اعتزاله وصنعت لنفسي عالمًا خاصًا لا يشاركني فيه غير ما أجده أمامي من صحف ومجلات وكتب”.

الطفل الصغير –الكبير- سخّر سنوات تكوينه الأولى في القراءة والكتابة، عكس باقي الأطفال في مثل عمره، ليتعرف للمرة الأولى على بعض العباقرة الذين ساهموا في تكوينه وأخرجوا لنا كاتبًا صنع تاريخ تليفزيوني مهم ربما لم يتكرر بعد.

أكد الكاتب الراحل، أنه في غرفة والده بمنزل جدته تعرف للمرة الأولى على عميد الأدب العربي طه حسين، وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم وتيمور الرافعي وغيرهم، بجانب اطلاعه على كثير من الكتابات التي ساهمت في تكوين ثقافاته، ومنها مجلات الرسالة والثقافة والمصور واللطائف المصورة ورزاليوسف ومسامرات الجيب وغيرها.

منين بيجي الشجن؟

يصف أسامة أنور عكاشة أن المرة الأولى التي دخل فيها عالم طه حسين من خلال كتاب “الأيام” جعل من هذا الكتاب “إنجيله وقرآنه”، حيث يقرؤه مرة تلو الأخرى بنفس الشغف والحزن والدموع في كل مرة.

وكانت أحزانه تتجدد مع اللون الرومانسي الذي يقرؤه باستمرار ويترك في أعماقه مشاعر من الحزن الهادئ ويترك على وجهه دموعًا صامتة بحسب وصفه.

فلم يكتفِ بـ”أيام” طه حسين فقط، بل كان يفضل أيضًا رواية نداء المجهول لمحمود تيمور، وقصة “آسيا” التي نشرت مترجمة في أحد أعداد مجلة الهلال والتي جعلته يمضي ليلة كاملة لا يفعل شيء سوى البكاء.

يقول الكاتب الراحل إن مشاعر الشجن والحزن هذه لم تختفِ بمرور سنوات عمره، بل ظلت مصاحبة له، لكنها لم تكن محرضة على الشجن والبكاء فقط، بل كانت محرضة على الخيال والإبداع أيضًا.

بابا شارو والمغامرة العجيبة

كان برنامج “بابا شارو” للإذاعي محمد محمود شعبان هو نقطة انطلاق “الكاتب” أسامة أنور عكاشة، وكان بديلًا لدخوله السينما التي كانت تعتبر من الكبائر في وجهة نظر أسرته، وسببًا في استحضار شخوصًا وعلاقات وصراعات في خيال الكاتب الراحل يتحكم هو في أحداثها ويوجهها إلى حيث يريد.

ذات ليلة قرر “عكاشة” الطفل أن يكتب قصة كالتي يرويها بابا شارو، وبدأ بالفعل بمساعدة شقيقته التي ظلت تكتب كل ما يمليه عليها يوميًا لمدة 7 ليال متتالية لتخرج إلى النور أول أعماله الإبداعية، رواية “المغامرة العجيبة”، ليرسلها إلى الإذاعة على أمل أن يقصها بابا شارو في برنامجه، وبعد أكثر من شهر جلس ليستمع حلقة البرنامج ووجد الإذاعي الكبير يوجه الشكر ويتنبأ لصديق البرنامج الجديد بأنه سيبصح كاتبًا ناجحًا.. وقد كان.

الشاعر الصغير

انتهت مرحلة بابا شارو وأصبح الطفل مراهقًا وبدأت مرحلة كتابة الشعر، فحب اللغة العربية والإنشاء والتعبير وإلقاء الخطب في نشيد الصباح في المناسبات الوطنية، كان نتيجته الطبيعية كتابة الأشعار، خاصة مع وجود “بنت الجيران” الملهمة، ليكتب:

لست أدري ما بعيني غير أني لم أنم

حيرة في السهد تبدو ثم يغشاها الألم

طيف ليلات الغرام ثم أطياف الندم

ثم أغدو كالغريق بين أمواج العدم

على الرغم من ذلك، كان لمدرس اللغة العربية في مدرسته رأيًا آخر، فعندما عرض عليه أشعاره وقرأها قال له إن هذا “كلام فارغ” ولا يمت للشعر بصلة، لكن صدمته لم تطل، حيث ظهر له مدرس اللغة الإنجليزية، إبراهيم راشد قاسم، الذي شجّعه حينما عرض عليه كشكول القصص الذي بدأ في كتابته بالتزامن مع كتابة الشعر أيضًا.

سنوات الحمى

بدأت مع “قاسم” مرحلة جديدة وصفها “عكاشة” بأنها “سنوات الحمى”، حيث نصحه مدرس اللغة الإنجليزية بقراءة قصص يوسف إدريس ويحيى حقي ومترجمات الكاتب الروسي أنطون تشيكوف، والفرنسي جي دي موباسان، لتواصل شخصية الكاتب في التكوين من خلال هؤلاء.

كانت ملاحظات مدرس اللغة الإنجليزيةهي ما أشعلت “حمى” القراءة واللهفة عليها وتخزين المعارف والإبحار فيها، حتى أصبح –بحسب وصفه- مصدر إزعاج لمن حوله، فيخالفهم ويسفّه من آراءهم وأحلامهم وأصبح شخص عدواني، لا يسمح لأحد أن ينافسه في أي نقاش يدور حول الأدب وقضاياه.

التعرف على “صيّاع” الأدب

لكن هذه الفترة لم تطل وانتهت بانتهاء مرحلة الدراسة الثانوية وبدأت المرحلة الجامعية، حيث التحق بكلية الآداب لكنه فشل في دخول قسم الإنجليزي وأصبح من طلاب قسم الاجتماع الذي رفض المواظبة على حضور محاضراته، واستبدله بـ”البوفيه”.

في “بوفيه” الجامعة تعرف “عكاشة” على “صيّاع” الأدب كما وصفهم ومنهم سيد حجاب وصلاح جاهين ومجدي مجاهد وغيرهم، حيث أنشأوا أسرة “الطلائع” بالكلية والتي تعرف من خلالها على الدكتور عز الدين إسماعيل والدكتور عبد القادر القط اللذان لعبا دورًا إيجابيًا في ارتباطه أكثر بالأدب، ونصحاه بمواصلة كتابة القصة القصيرة، ليفوز بالجائزة الأولى في أول مسابقة أدبية ينظمها اتحاد طلاب الكلية عن قصة “حكاية غريبة”، ليتأكد له بعد ذلك أن هذا هو الطريق الذي لا بد أن يسلكه.

الصعلكة.. والصياعة الأدبية

بالتزامن مع المرحلة الجامعية، عاصر الكاتب الراحل مرحلة “الصعلكة والصياعة الأدبية” حيث حضور ندوة “كازينو أوبرا” مع نجيب محفوظ كل جمعة، وندوة حسين قباني في كازينو الجزيرة وندوة العقاد في مصر الجديدة، والتنقل بين أرصفة “ريش” و”ايزافتش” و”مقهى الحرية” و”علي بابا”، لتتكون داخله حالة من التمرد على كل المقدسات والتابوهات ويواصل مشواره، إلى أن اكتملت سنوات تكوينه التي صاغت بقوة ملامح ما قدمه في الدراما التلفزيونية.