حسين عثمان يكتب: افعلها سيدى الرئيس قبل فوات الأوان

ما بين خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في ذكرى المولد النبوي الشريف، والذي بثته مختلف وسائل الإعلام على الهواء مباشرة يوم الخميس الماضي، وكلمته الحادة السريعة التي ألقاها أمس في محيط النصب التذكاري للجندي المجهول في ختام تشييع جثامين شهداء الوطن ضحايا تفجير الكنيسة البطرسية، ما بين هذا وذاك، يتلخص حال وطن يتساقط شهداؤه يوماً بعد يوم من أبنائه رجال الجيش والشرطة والقضاء والمواطنين العاديين الذين لا حول لهم ولا قوة، وطن يقف أمام المرآة لا ليرى نفسه على حقيقتها، وإنما ليتجمل في مواجهة إرهاب دموي يعلم هو قبل غيره، ويؤكد في كل وقت، وعلى مرأى ومسمع من الجميع في الداخل والخارج، أنه إرهاب دولي منظم تقف وراءه دول وحكومات بما تملكه من أجهزة وأموال وإمكانات، ولا نبالغ الآن إذا أضفنا، وعقول تفكر وتنظر بحيث جعلت منه فكرة وعقيدة تكاد تشكل ديناً جديداً له أتباعه المتزايدون يوماً بعد يوم في كافة بقاع الأرض.

وحتى لا أفتح أي أبواب للمزايدة على مضمون مقالي هذا، أبادر بتوضيح إحدى قناعاتي الكبرى في الحياة، ألا وهي أنني لا أتناول أحداً بمشاعر الحب أو الكره إلا إذا عاشرته عن قرب وتواصلت معه شخصياً، وقتها أستطيع القول أنني أحب هذا الشخص أو أكره ذاك، أما إذا غابت العشرة، وتعذر التواصل الشخصي، فعندها، وطالما تطلب الأمر، لا أملك إلا تناول الآخرين مجتهداً في التقييم العقلاني الموضوعي البعيد عن أي مشاعر شخصية من أي نوع، فتكون كلمتي وقتها خالصة لله وللصالح العام، ولكنني في المقابل، وبكل قوة، وفي كل وقت، وخاصة حين تحيطنا أزمة تتطلب وضوح المواقف، بل وحدتها، عندها أؤكد وأقول قولاً واحداً أنني أحب وطني وديني، بل وأحبهما معاً أكثر من أي شخص أياً كان موقعه، وأياً كانت درجة قرابته مني أو بعده عني، وقياساً على هذه القناعة، أؤيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في الصواب، وأعارضه متحفظاً في الخطأ، وذلك انطلاقاً من إيماني بأن وحدة الوطن لن تتحقق يوماً إلا مقرونة بالتنوع في الآراء والرؤى والأفكار، بل وقبول الآخر قبولاً إنسانياً حسناً قوامه التوافق على التعايش مختلفين طالما لم نتفق.

والآن أتكلم، أتكلم في نقد خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في ذكرى المولد النبوي الشريف، وفي كلمته التي شيع بها شهداء الوطن أمس.

تجديد الخطاب الديني، تلك الدعوة التي وجهها الرئيس لأول مرةفي ذات المناسبة منذ عامين، مناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف، ولا حياة لمن تنادي، وكررها العام الماضي في نفس ذات المناسبة بلهجة أكثر حدة، وأيضاً لا حياة لمن تنادي، وأعاد تكرارها هذا العام بتفصيل وتوجيه بل وتكليف وضع له خطوطاً عريضة، وأبشرك سيدي الرئيس بأنه لن تكون هناك أيضاً حياة لمن تنادي!!..فأنت تنتظر الحل هنا ممن صنع المشكلة، وأبداً لن يكون لمن صنع المشكلة أي دور في حلها، فمؤسساتنا الإسلامية الرسمية الثلاثة في حاجة إلى إعادة صياغة فكرية قبل إعادة الهيكلة المؤسسية، إعادة صياغة قوامها الأساسي إعمال العقل بعيداً عن نمطية عقلية النقل والتلقين، ولا يدهشني هنا سيدي الرئيس إلا تأكيدك في ذات الخطاب أن الأزهر قلعة الاستنارة!!.. الأزهر سيدي الرئيس يتبرأ من فكر خريجيه المجددين التاريخيين أمثال الإمام محمد عبده والدكتور طه حسين، بل ويوقف عن العمل ويحيل للتحقيق من يدعو لأفكارهما من أساتذته المعاصرين، فهل تنتظر من الأزهر أن يجدد الخطاب الديني؟!.

فإذا تحدثنا عن وزارة الأوقاف، فلن تكون إلا السخرية سيدة للموقف، حيث لم يلتقط وزير الأوقاف من دعوتكم لتجديد الخطاب الديني إلا توحيد خطبة الجمعة وجعلها مكتوبة!!.. مشهد آخر من مشاهد نمطية التفكير ومحدودية الرؤية، وفي تسرع يضارع السباق الطفولي البريء لإثبات السمع والطاعة لولي الأمر، وأنت تعلم سيدي الرئيس كما نعلم جميعاً أن خطبة الجمعة الأسبوعية، وطوال أعمارنا جميعاً على اختلافها لم تخرج يوماً عن ارتباطها بتقويم السنة الهجرية، نفس ذات المناسبات والآيات والأحاديث والقصص والروايات، لا شيء إلا النقل والتلقين من جيل إلى جيل إلى جيل، وأبشرك وإلى أجيال قادمة طالما استمر الحال على ما هو عليه، فهل تنتظر من وزارة الأوقاف أن تجدد الخطاب الديني؟!.

أما مرصد دار الإفتاء، فهو الآخر مجهود يمثل حرثاً في البحر، فهو ليس إلا ردود أفعال قوامها الأساسي أيضاً استدعاء التابوهات والقوالب من النصوص على اختلاف أنواعها!!.. لا أحد منا لا يستمع إلى إذاعة القرآن الكريم حتى ولو بالمصادفة، وضيوفها دائماً من إحدى هذه المؤسسات الثلاثة، وكأنه رجس من عمل الشيطان أن تستضيف أحداً من خارجها!!.. والقضايا المطروحة مهما كانت جديدة وعصرية، لا يفعل الضيوف إلا الارتداد بها إلى الماضي إلى نص قرآني هنا أو حديث هناك أو قصص وروايات تراثية دون أدنى مجهود حتى في تطوير الأساليب والمرادفات، وكأنك تستمع إلى تسجيلات من لحم ودم، ما أن يطرح السؤال حتى تأتي الإجابة النمطية التقليدية التي لا اختلاف فيها إلا صوت قائلها، فهل تنتظر من هؤلاء سيدي الرئيس أن يجددوا الخطاب الديني؟!.

أكدت في خطابك هذا سيدي الرئيس أنك لا ولن تجامل أحداً على الاطلاق، حتى أولادك، وأنا أقول هنا قولاً واحداً أنك تجامل كل هؤلاء، ليس فقط بقبولك استمرار المنظومة على ما هي عليه، بل وبالتزام مكانك تأدباً دون أي رغبة بالتدخل المباشر تبجيلاً وتقديراً لرجال الدين، ولكن ماذا تأخذ منهم في المقابل؟!.. ليس إلا إحراجك ما استطاعوا.. فإذا تناولنا كلمتك في ختام تشييع شهداء الوطن ضحايا الكنيسة البطرسية، فلا يستوفنا في ذات السياق، سياق المجاملة، إلا تأكيدك الحاد بأنه لا يوجد خلل في المنظومة الأمنية!!.. اوعى حد يقول إن في خلل أمني!!.. هكذا تحدثت سيادتكم بلهجة محذرة بعدما كشفت أن الفاعل شاب اخترق الكنيسة الأم بحزام ناسف!!.. إذا لم يكن هذا خللاً أمنياً.. فما هو الخلل الأمني إذاً؟!.

عفواً سيدي الرئيس، تدخلك المباشر آن أوانه، بل وصار حتمياً، ومن الضرورة بمكان،وبحيث لا يمكن تأجيله مجاملة أو مهادنة، ونحن نعلم صدق نيتكم في الإصلاح،أنت تطالب بإعادة صياغة الشخصية المصرية، ونحن نطالبك بأن تأخذ المبادرة الصريحة هنا بإعادة صياغة العقل المصري، فمثلما شكلت العديد من المجالس، وعقدت وقمت برعاية العديد من المؤتمرات، زدها جميعاً واحداً نراه الأهم، بل والأكثر أهمية، سارع بتشكيل مجلس تخصصي للتنوير يتبع رئاسة الجمهورية مثل سابقيه من المجالس القومية التخصصية التي قمتم بتشكيلها طوال العامين الماضيين، وبحيث تكون الدعوة في أقرب وقت ممكن لعقد المؤتمر الوطني الأول للتنوير تحت رعايتكم وبحضوركم شخصياً، ومعكم صفوة المفكرين المجددين، وبأجندة عمل واضحة لإعلاء قيم المعرفة وإعمال العقل وقبول الآخر،وهو ما نراه حجر الأساس الفعلي، والرسالة المباشرة الصريحة نحو إعادة صياغة العقل المصري، والذي والتي يمكن البناء عليهما معاً في تواصل شهري مستمر يؤتي ثماره مع الوقت حتى نغادر جميعاً القرن الثالث عشر، قرن ابن تيمية، ونشعر بالفعل أننا نعيش القرن الحادي والعشرين.

افعلها سيدي الرئيس قبل فوات الأوان، فأنا أختم مقالي هذا بصحبة رسالة إخبارية على الموبايل تبشرني باستشهاد مجند وإصابة اثنين آخرين في انفجار بالشيخ زويد، افعلها قبل أن تصبح “سعيكم مشكور” هي عنوان ملفكم في مكافحة الإرهاب.