ياسر أيوب يكتب: مأساة رشيد .. وجع الفقر أم فقر الفكر

نقلًا عن مجلة 7 أيام

مأساة رشيد التى بدأت بقرار أربعمائة وخمسين إنسانًا.. ليسوا كلهم مصريين.. ومحاولتهم الهرب من مصر إلى أوروبا وانتهت بغرق قرابة المائتين منهم.. هى واحدة من حكايات بلادنا الكثيرة التى باتت تحتمل وتقبل أكثر من رؤية وتفسير ووجهة نظر.. فهناك من سيراها مجرد فصل جديد فى كتاب الهجرة غير الشرعية سبقته وستلحقه فصولٌ أخرى كثيرة.. وهناك من سيراها مجرد جريمة أخرى سيتم قيدها ضد مجهول أو ستتم بمنتهى الحزم والقوة والقسوة محاكمة المجرمين الصغار وتجاهل عن إصرار وعمد كل المذنبين والمجرمين الكبار.. هناك من سيستغلون هذه المأساة وضحاياها فقط للهجوم على الرئيس السيسى وإدارته ومصر التى باتت طاردة لأولادها وتحولت إلى زنزانة يحاول كل من فيها الهرب منها وسيتجاهل هؤلاء أية حقائق أخرى لمجرد تصوير الأمر على أنه مشكلة الدولة ورئيسها.. وفى المقابل، سيكون هناك من يدافعون عن الرئيس والإدارة حتى لو كان الثمن هو قيامهم بكل غلظة وبرود وقسوة بإدانة الذين ماتوا غرقًا والتأكيد على أنهم مخطئون ومذنبون يستحقون ما جرى لهم نتيجة طمعهم ومحاولتهم غير المشروعة للبحث عن حياة أجمل وأفضل.. وفى المقابل، سيكون هناك من سيبكى شاعرًا بوجع حقيقى فى القلب وهناك من يبيعون للآخرين دموع التماسيح ومشاعر الذئاب وأخلاق الثعالب وشجاعة الأرانب.. وفى كل الأحوال سيبقى الجميع ينظرون للوراء وليس للأمام.. سيبقى الجميع يتكلمون عمَّا جرى وليس البحث عن سبل لضمان عدم تكرار ما جرى.. فمن الواضح أنه لا أحد منَّا يريد أن ينظر للأمام.. لا أحد يريد أن يصنع المستقبل الأفضل ظنًّا بأنه سيأتى من تلقاء نفسه لو بقينا فى أماكننا نائمين فوق أرصفة أيامنا.. لا أحد يريد أن يقدم شيئًا جديدًا أو يقول كلامًا مختلفًا أو يتمرد على كل حسابات وقيود أن تكون مع أو ضد وأن تضع أحكامك النهائية أولا قبل أن تبدأ جلسات المحاكمات والكتابات والشكاوى والصرخات والاتهامات.

ياسر أيوب يكتب: أهلًا بالزميل العزيز باراك أوباما رئيسًا للتحرير

وبهذا المنطق.. أبدأ الحديث عن مأساة رشيد بمدينة رشيد نفسها.. وقد تكون مأساة المدينة أقدم وأكبر من مأساة المركب الغارقة.. فالمدينة المصرية القديمة جدًّا والتاريخية جدًّا والتى كانت فى يوم ما جميلة جدًّا.. تركناها وحدها يفترسها النسيان والإهمال.. مدينة التاريخ والآثار التى يحمل اسمها الحجر الذى استعان به شامبليون لكشف أسرار وقواعد اللغة الهيروغليفية ورغم ذلك ليست مدينة سياحية على خريطة مصر.. لا شوارع وميادين ومطاعم وفنادق ومتاحف جميلة راقية وساحات للترفيه.. مدينة تسكن بين النيل والبحر وليست فيها شواطئ تليق بالاثنين معًا وهذا اللقاء التاريخى والجغرافى بينهما يمكن استغلاله سياحيًّا واقتصاديًّا.. مدينة اشتهرت سنة وراء أخرى بأنها مدينة المليون نخلة ورغم ذلك لا تملك وسائل حديثة وأفكارًا تقود لتجارة وصناعة حقيقية تعتمد على هذا التمر.. ولا أزال أذكر حين التقيت برجل الأعمال المصرى سامى الراجحى الذى هاجر إلى أستراليا وقضى هناك أعوامًا طويلة امتلك فيها مناجم الذهب والكثير من المال وقرر أن يعود إلى مسقط رأسه فى رشيد ليبنى بيتًا يطل على المشهد الساحر أمام عناق النيل والبحر.. قرر أيضًا أن يستجيب لطلب زوجته الإنجليزية بالإقامة الدائمة فى رشيد وأن يؤسس مصانع ضخمة لاستخراج الرمال السوداء التى تترسب هناك فى قاع النيل واستغلال هذه الرمال طبيًّا وعلميًّا وصناعيًّا وسياحيًّا لكن لم تسمح له بذلك البيرقراطية المصرية المعتادة.. فأقام فى الإسكندرية وأسس منجم السكرى فى الجنوب لاستخراج الذهب.. وسمعت حكايات أخرى من أبناء رشيد وممن يعشقون رشيد ويعرفون أسرارها وإمكاناتها لكنهم يصطدمون جميعًا بالعراقيل التى تمنع أى استثمار أو نجاح.. فلا أحد يريد ذلك.. كأنهم كلهم يريدون أن تبقى رشيد رغم كل ما تملكه من إمكانات ومزايا مجرد مدينة مصرية أخرى تفتش يومًا بيوم عن لقمة تسد بها جوع أبنائها ولا تطلب أكثر من مجرد مدرسة يتلقى فيها الصغار أى تعليم ومقهى يترك فيها شباب رشيد كل ما هو زائد وغير ضرورى من أوقاتهم وأحلامهم حيث لا وظائف أو طموح أو حياة.. فكان أن أصبحت رشيد مدينة طاردة للجميع رغم أنه كان ولايزال ممكنًا أن تكون مدينة جاذبة لشباب كل المدن والقرى حولها للعمل فى مصانعها ومزارعها ومؤسساتها وتجارتها

ياسر أيوب يكتب: الزمالك يستحق كل هذه الفرحة

ولست أريد إطالة الحديث عن رشيد وقيمتها ومكانتها رغم أنها تستحق.. لست أيضًا أريد الإطالة عن إمكانات رشيد التى تستطيع تحويلها فى سنوات قليلة إلى مدينة حقيقية وحيَّة وغنية وقادرة وجميلة وناجحة.. إنَّما أريد فقط تنبيهَ الكثيرين إلى أن هذا هو المنهج الصحيح للتعامل مع مأساة رشيد الأخيرة التى ستتكرر طالما لم تتغير الظروف والأحوال.. طالما لم تتغير العقول والأفكار ومناهج التخطيط والإدارة.. وأخجل بالتأكيد أن أطالب رئيس الجمهورية بدراسة عن تحويل رشيد إلى مدينة صناعية سياحية تجارية منتجة وغنية وجميلة.. فهى ليست مهمة الرئيس.. إنما أطالب أبناء رشيد أنفسهم.. أطالب الوزراء ومحافظ البحيرة بمحاولة ممارسة الإبداع تفكيرًا وأسلوبًا للعمل والحياة.. لا أطلب ذلك فقط.. إنَّما هذا هو المهم أولاً.. هذه هى الخطوة الأولى التى لابد أن تصاحبها خطوات أخرى كثيرة.. فقراءة ومتابعة التحقيقات والحكايات التى قيلت هنا وهناك منذ وقوع تلك المأساة الأسبوع الماضى.. تشير إلى عدة أمور تلزم الجميع بالتوقف والالتفات.. فهناك مافيا لتجارة البشر فى رشيد وتسفير المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا بمراكب غير قادرة أو صالحة لمثل هذا الإبحار الطويل.. ولا أقصد بزعماء هذه المافيا تلك الفئران الصغيرة التى على السطح.. إنما أريد الوحوش الكبيرة والتى يزداد توحشها يومًا بعد يوم ومركبًا بعد مركب.. فهناك أجانب وغرباء تأتى بهم هذه المافيا لتقوم بتهريبهم إلى الشمال تمامًا مثل المصريين.. وكأن رشيد باتت إحدى المحطات الأساسية لتهريب الأفارقة إلى أوروبا بكل ما يعنيه ذلك من أرباح هائلة يجنيها من يتاجرون فى كل شىء حتى البشر ومشاعر البيوت.. وبات هذا التهريب هو التجارة الوحيدة المتاح العمل فيها لمن يقبل من أهل رشيد والمدن المجاورة لها.. ثم أنه لابد أيضًا من التساؤل عن الأمن وهل كان غائبًا لا يعلم أم كان يعلم ولا يبالى أو يشارك بعض مسئوليه فيما جرى.. لكنها تبقى فكرة مزعجة للغاية أن يتم تجميع وحشد أربعمائة وخمسين شخصًا وحشرهم فى مركب قديمة على ساحل البحر دون أن يدرى بهم أحد ولم يكن سيدرى لولا غرق المركب واكتشاف هذه المأساة.. وهذه المركب الغارقة بالمناسبة ليست أول أو آخر مركب تُبحر من أمام سواحل رشيد إلى أوروبا.. تتحرك من مناطق بعينها يعرفها الجميع أو مفترض أنهم يعرفون لكنهم يتظاهرون دائمًا بأنهم لا يعرفون.. وإن كان الأمن لا يعرف فبالتأكيد تعرف قوات حرس الحدود.. ولابد من وقفة حاسمة مع كل هذا.. لابد أن يبدأ التفكير فى استغلال كل إمكانات ومزايا رشيد من ناحية.. ومحاربة عصابات ومافيا الإتجار بالبشر من ناحية أخرى.. ويمكن أن يندرج كل ذلك تحت عنوان محاربة الفقر.. فالفقر ليس فقط ألا تملك المال.. إنما الفقر أحيانًا هو أن تعجز عن التفكير.. عن الخيال.. عن الأحلام.. عن التغيير.. عن محاولة البحث عن المستقبل الأفضل والحياة الأجمل.

ياسر أيوب يكتب: رؤية مصرية للخواجة سيفيرين

قبطان رافعة انتشال “مركب رشيد”: الجثث كتير وملتحمة في بعض

————

@@ لا أحد يريد أن يصنع المستقبل الأفضل ظنًّا بأنه سيأتى من تلقاء نفسه لو بقينا فى أماكننا نائمين فوق أرصفة أيامنا!!

@@ الفقر ليس فقط ألا تملك المال.. إنما الفقر أحيانًا هو أن تعجز عن التفكير.. عن الخيال.. عن الأحلام.. عن التغيير.. عن محاولة البحث عن المستقبل الأفضل والحياة الأجمل