محمد الباز يكتب: نصر أبو زيد... نصير القرآن الذى قتلوه مرتين (القرآن فى مصر 20)

” القرآن نص لغوى يمكن أن نصفه بأنه يمثل فى تاريخ الثقافة العربية نصا محوريا، وليس من قبيل التبسيط أن نصف الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة النص، بمعنى أنها حضارة أنبتت أسسها، وقامت علومها وثقافتها على أساس لا يمكن تجاهل مركز النص فيه”.
كانت هذه هى الفقرة الأولى فى كتاب الدكتور نصر حامد أبو زيد ” مفهوم النص… دراسة فى علوم القرآن”… وهو الكتاب – إلى جوار كتب ودراسات أخرى – الذى أدخل الباحث الجامعى الجاد إلى دوامة المحاكم والإتهام بالكفر والتفريق بينه وبينه زوجته الدكتورة ابتهال يونس، على إعتبار أنه لا يحق للمرأة المسلمة أن تتزوج من كافر.

الإتهام كان عبيثا، لكن رد الفعل لم يكن كذلك.

ترك نصر كل شئ وراءه، لم يركن إلى الوطن الذى هجره، وتركه فريسة لذئاب بلا عقل ولا ضمير يفترسونه على قارعة الطريق، استقر فى هولندا، حيث عمل استاذا للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن.

جرت الماسأة الكبرى فى حياة نصر أبو زيد فى منتصف تسعينات القرن الماضى، وبوعى كامل أستطيع أن أقول أنها مهزلة كبرى، من عملوا على إشعال نارها لم يكن فى قلوبهم أى مكان لله، ولا كانت لديهم رغبة فى حماية القرآن والدفاع عنه.

كان نصر واحدا ممن يكتبون ضد كهنة الدين، هؤلاء الذين يسرقون عقول الناس وأموالهم باسم الله، كان من بين هؤلاء الكهنة الدكتور عبد الصبور شاهين، كال له نصر نقدا لاذعا، على خلفية وضع علمه وفقهه فى خدمة رجال توظيف الأموال، ورغم ما كان يبديه شاهين من تسامح، إلا أنه لم يغفر لنصر ما فعله معه.

جاءت الفرصة للإنتقام.

تقدم نصر كأستاذ مساعد فى قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة للحصول على الترقية، كانت البحوث التى تشفع بها للترقى تدور حول الفكرة الأكبر التى وهب نصر نفسه لها، وهى نقد الخطاب الدينى ” ، ذهبت أبحاثه إلى لجنة الترقيات التى كان عبد الصبور شاهين عضوا من أعضاءها.

تميز نصر أبو زيد كباحث لا يمكن أن ينكره أحد على الإطلاق، لكن شاهين فعلها، تسبب فى رفض البحوث، حيث طعن فى مستواها، لكن الأهم من ذلك أنه سرب تقريره إلى الصحف، وهو أمر مخالف لكل الأعراف والقيم والأخلاق الجامعية.

اتهم شاهين نصر أبو زيد فى تقريره بالكفر، قال عنه نصا:” يضمر عداوة شديدة لنصوص القرآن والسنة والدعوة، ويهاجم الصحابة، وينكر المصدر الإلهى للقرآن الكريم، ويدافع عن الماركسية والعلمانية وسلمان رشدى وآيات شيطانية.
لم يكن هذا تقريرا علميا على الإطلاق، بل كان مجرد ردحا و تحريضا، وأصبحت التهمة معلقة فى رقبة نصر أبو زيد، أما التهمة فهى أنه يقول ” أن القرآن نص”.

السخرية مما حدث كانت رد فعل جميع من عرفوا نصر.

يحكى يوسف زيدان الذى كان صديقا مقربا من أبو زيد: فى مطلع التسعينات عرفت الدكتور نصر حامد أبو زيد، المفكر المصرى اللامع الذى كان فى صغره طفلا درويشا يعيش فى منطقة قحافة اللصيقة بمدينة طنطا، التى قام فيها مقام السيد أحمد البدوى، الصوفى الكبير، حيث كان يعرف فى بلدته أيام طفولته وشبابه المبكر باسم الشيخ نصر، ولذلك لم يصدق أهله الأولين أى شئ مما أثير بعد سنوات طوال، من اتهامات بالإلحاد والعداء للإسلام، لا سيما تلك التهمة التى راجت أيام أزمته الشهيرة وتداولتها ألسنة الجهلاء، ونصها البائس: نصر أبو زيد ملحد يدعى أن القرآن نص.

يواصل يوسف حكايته: أيامها قال لى أحد الأساتذة الجهلاء كأنه يصرح بسر مهول، نصر أبو زيد له كتاب بعنوان ” مفهوم النص” يقول فيه إن القرآن الكريم نص، قلت له وكنا آنذاك فى ندوة حاشدة، طبعا، القرآن الكريم نص، والحديث الشريف نص، ونحن نقول القرآن ينص على كذا وكذا، ونقول لا اجتهاد فيما ورد فيه نص، فأين المشكلة؟ قال محدثى: أستغفر الله، مفيش فايدة فيكم.

لم تكن التهمة إذن يتداولها العامة فقط، ولكنها كانت الصيغة التى يتحدث بها أساتذة الجامعة، وخلاصتها أن نصر أبو زيد يرى أن القرآن الكريم ليس إلا نصا بشريا، تم إنتاجه طبقا لمتطلبات ومتغيرات بيئته، وهو بذلك ليس وحيا من السماء، بل خرج من الأرض، وقال به بشر لم يتصل بالسماء مطلقا.
هذا ما وصل للناس، وطبيعى أن يحكموا على نصر بالكفر، أن يلعنه الخطباء فى المساجد، وأن يردد المصلون خلفهم الدعاء عليه بالهلاك، كان طبيعيا أن يظل ملعونا طوال حياته، وحتى عندما مات فى العام 2010 ودعه الجهلاء باللعنة والشماتة.
****
السؤال الذى أحاول أن أضع إجابته أمام عامة الناس وليس خاصتهم هو: هل فعلا كان هذا ما قاله نصر أبو زيد على القرآن؟
لن أجرى بحثا مستفضيا للإجابة على هذا السؤال، سأستند فقط إلى مقدمة منشورة مع الأعمال الكاملة لنصر صدرت فى العام 2014 عن المركز الثقافى العربى ببيروت.
يقول كاتب المقدمة الذى لم يوقعها أحد باسمه أن نصر أبو زيد بدا فى مهمة شاقة جدا، يمكن التعبير عنها بانها كانت مساءلة للنص الدينى، عمل فيها على إعادة ترتيب الوقائع النصية بما لا يتعارض مع السياق الإيمانى، متتبعا تحولات المعنى، منذ مأزق التأويل الذى وقع فيه المفسرون الأوائل للقرآن حتى اللحظة الراهنة.
لم تكن المهمة سهلة، فحتى يفعل ذلك، كان عليه أن يواجه التفسيرات والتأويلات البشرية التقليدية للقرآن الكريم، وتقديم تصور معرفى جديد يعمل على تأويل الخطاب القرآنى فى سياق تشكله التاريخى والإجتماعى.

وعلى عكس ما يروجون عن نصر، فقد كان حريصا إلى أبعد مدى، على عدم المس بالطبيعة الإيمانية لمصدر الخطاب القرآنى – فهو لم يقل أن القرآن لم يأت من عند الله أبدا – وفى الوقت نفسه ظل يؤكد أن الإيمان بالمصدر الإلهى للنص ( الله)، أمر لا يتعارض أبدا مع تحليل هذا النص من خلال فهم الثقافة التى ينتمى إليها.

نصر ودون لف أو دوران لم يفعل أكثر من تأسيس تاريخية لبنية الخطاب الإلهى، كشف عبره عن طبيعة القراءات الأيديولجية للنص القرآنى، بفضل قراءة نقدية تتوسل بالدرجة الأولى بمنهجية تحليل الخطاب وتفيد من مناهج السيميولوجيا، فضلا عن الإفادة من مناهج الألسنية والأسلوبية وعلم السرد، وغيرها من المنهجيات المستخدمة فى دراسات العلوم الإجتماعية، وكل ذلك من أجل تقديم رؤية معاصرة للفهم القرآنى.

يقر أبو زيد فى مجمل دراساته أن الاسلام يقوم على أصلين، هما القرآن والحديث النبوى الصحيح… لكنه يعى فى الوقت نفسه أن النصوص التى تشكل المصدرين، لم ينزلا مرة واحدة على الرسول، بل هى نصوص لغوية تشكلت خلال فترة زادت على عشرين عاما، وهو ما يشير إلى أنها حتما تأثرت فى صياغتها ومعانيها بالواقع والثقافة المحيطة بها.

كانت الفكرة الأساسية التى تمحورت حولها كل بحوث ودراسات نصر أبو زيد، هى وضع الخطاب القرآنى فى السياق التاريخى للفعالية الإجتماعية والبشرية التى يتوجه إليها، وهو ما يستدعى مسبقا الإقرار بأن لمستقبل الخطاب الحق فى فهمه من ضوء المعطيات الثقافية والتاريخية للحظة انبثاق الوحى وتنزله.
****
كان هذا المدخل تحديدا هو الذى جر على نصر أبو زيد العواصف كلها، وتحديدا بعد أن وضعها فى إطار واضح ومحدد فى كتابه “مفهوم النص”، حدث هذا رغم أنه حرص وبشدة على ألا ينشأ تعارض منطقى بين ألوهية النص – أى نزوله عبر الوحى من قبل الله على رسوله الكريم – وواقعية محتواه وانتماءه إلى أفق الفهم البشرى.

فى ” مفهوم النص” يرى نصر أن القرآن الكريم يصف نفسه بأنه رسالة، وبالتالى فإن الرسالة تمثل إتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة أو كود خاص، يمكن أن نتعامل معها على أنها نظام لغوى، ولما كان المرسل فى حالة القرآن لا يمكن أن يكون موضوعا للدرس العلمى ( حاشا لله أن يكون ذلك)، فمن الطبيعى أن يكون المدخل العلمى لدرس النص القرآنى مدخل الواقع والثقافة.

حدد نصر أبو زيد ما يقصد بالواقع، بأنه السياق الذى ينتظم البشر المخاطبين بالنص، وينتظم المستقبل الأول للنص وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، والثقافة التى تتجسد فى اللغة.

يميل نصر أبو زيد كذلك إلى أن كون القرأن الكريم كان منتج ( بالفتحة) ثقافى فى البداية، لا يعنى أنه لم يتحول إلى منتج ( بالكسرة) ثقافى، نظرا إلى علاقة التفاعل الجدلى بين الخطاب والواقع، وهاتان المرحلتان لا تنطويان على إجحاف للمصدر المتعالى للخطاب الإلهى الذى دخل عبر النبى صلى الله عليه وسلم حيز اللغة.

وهو يعمل على مشروعه الكبير أدرك نصر حامد أبو زيد أن المفسرين الكبار الذين سبقوه إلى دراسة القرآن وقعوا فى مأزق التفسير اللفظى، وهو ما يمكننا أن نطلق عليه ” التيار الحرفى فى التأويل” وذلك من أجل الحفاظ على الطابع الإيمانى للقرآن، وإذا غم عليهم شئ لجأوا إلى التأويل المجازى لكل ما يتناقض مع النص القرآنى.

تريدون أن تعرفوا شيئا عن النص عند نصر أبو زيد؟
حسنا… يمكن ان نفعل ذلك الآن.

الكشف عن مفهوم النص فى مشروع أبو زيد التأويلى يعد أمرا مركزيا تقتضيه التحولات اللغوية أو البنيوية التى طرأت ليس فقط على النص او الخطاب القرآنى، وإنما على التأويلات المتعسفة فى ادعاء احتكار اليقين، وفرض التصورات المتزمتة للنص الدينى، وعدم الاعتراف بالتطور الحضارى واستحقاقاته،وهو ما جعل النص بفعل التفسير السلفى الحرفى المحافظ، يغمر الحياة ويقدم إجابات كلية عما مضى، وما سيمضى فى المستقبل غير المنظور.

أمسك نصر أبو زيد بالأزمة التى نعيشها، وتعتصرنا حتى الآن… فهو يرى أن أحد أبرز الأسباب الأساسية التى جعلت النص الدينى يغمر الحياة ويسيطر عليها يتمثل فى العقل الفقهى الذى دشنه الإمام الشافعى، عندما أسس ما أطلق عليه ” سلطة النص”… ومنحها قوة التداخل مع نطاقات سائر المجالات الحياتية الإجتماعية والمعرفية.

لعب الإمام الشافعى لعبة فقهية بسيطة، لكن أثرها كان مدمرا، فقد حول النص الشارح ( اجتهاد البشر حول القرآن) إلى نص أصلى، وأضفى عليه درجة كبيرة من المشروعية، ثم وسع مفهوم النص فألحق به السنة والإجماع والعادات، وقام بربط الإجتهاد بكل ما سبق ربطا محكما.
ماذا يعنى هذا فى النهاية؟

يعنى أن ما فعله الإمام الشافعى عندما حول النص الشارح إلى نص أصلى وأضفى عليه قداسة، عمل على تكبيل الإنسان بإلغاء فعاليته وإهدار خبرته، والسعى إلى المحافظة على المستقر والثابت، وتكريس الماضى بإضفاء طابع دينى أزلى عليه.

تفسير القرآن على طريقة الفقهاء والمفسرين القدامى يحنط النص الإلهى بهدف تقديسه، وهو ما أدى إلى تغذية ظاهرة التزمت فى العالم الإسلامى، وظاهرة الأصولية والجماعات السلفية التى تنخرط فيما يسمى ب ” الإسلام الجهادى” الذى يوسم ب ” الإرهاب”… لأنه يستخدم أدوات عنيفة تصدر عن تصورات لاهوتية تحث على تطبيق الإسلام بحد السيف، وذلك فضلا عن تقسيم ذلك التصور الأصولى للعالم، باعتباره فسطاطين، الأول دار حرب، والثانى دار سلام، وذلك بحسب الخطاب التكفيرى الأصولى الذى يفسر بعض الآيات ويأولها تأويلا أيديولوجيا يخدم أغراضه السياسية ومنافعه الآنية.
ترك نصر حامد أبو زيد كل ذلك وراءه، وذهب إلى أنسنة الخطاب الدينى، ومن بينه النص الإلهى، وتمت الأنسنة من خلال تحرير هذا الخطاب من التفسيرات التعسفية والرؤى الأسطورية التى رانت عليه، وهو ما أدى إلى نشوء ممارسات غيبية، وتأويلات تخدم السلطات السياسية، وتقدم للاستبداد والجهل مبررات بقائهما واستمرارهما وتغولهما.
*****
لقد خدم نصر أبو زيد القرآن الكريم كما لم يخدمه أحد، حاول جاهدا أن يخلص إلى صيغة تصل التراث الدينى بكل عناصره ومستوياته، بلحظة العيش الراهنة الآن، وكذلك بالمستقبل، لأنه يعتقد أن الانقطاع عن الماضى يعادل الإقامة فيه، وبالتالى لابد من البحث عن آلية تقرأ الماضى، ما يجعله مستمرا فى الحاضر، ودافعا إلى الترقى، وحافزا على الإصلاح والتمدن.
كان يمكن أن يمر مشروع نصر أبو زيد دون ضجة، كان يمكن أن يكتب ما يريده بشكل كامل، ثم يضعه على رف المكتبة العربية الكبير، لكن قدره أنه واجه قوى الظلام التى سعت إلى احتكار اليقين الدينى، والنطق الحصرى بلسان السماء، وعمل على تصديع المنظومة الرمزية التى يتخندق فيها أصحاب ذلك اليقين، وتشقيق التصورات الميتافيزيقية التى تسعى إلى شل إرادة الإنسان، وتحويله إلى تابع مذعن لسلطة دينية ذات مرجعيات أيدلوجية، وتطلعات سياسية تستخدم الدين لخدمة أغراضها، ولا تسعى بأى وجه من الوجوه إلى خدمة الإسلام وإبراز أفقه الإنسانى الرحب.
****
انس كل ما سمعته عن نصر أبو زيد، انس أيضا كل ما قرأته عن سيرته عند خصومه، اعرف فقط أنه خدم القرآن كما لم يخدمه أحد، كان نصيرا له، فى مواجهة من قرروا أن يصادوره لمصالحهم الخاصة الضيقة، ولأنهم كانوا يعرفون ذلك، لم يسكتوا عليه، قتلوه مرتين.
الأولى عندما أخرجوه من أرضه التى كان يتمنى أن يكمل فيها مشروعه، أذلوه وجعلوا الكوابيس تطارده فى أحلامه، بل إن مصر كانت تأتيه فى أحلامه على هيئة كابوس، فهم لم يختلفوا معه فقط، لكن كفروه، جروده من دينه، وكانوا يريدون أن يفصلوا بينه وبين زوجته التى رفضت همجيتهم وسافرت معه، ولا تزال على العهد باقية.

الثانية عندما اختطفه الموت، كان نصر يستحق وداعا يليق به، وداع يتناسب مع ما أضافه للقرآن، ما يتسق مع المدرسة الكبرى التى أسسها للدراسات القرآنية، ولها تلاميذ ومريدون، عن عمله حتى نهاية حياته، ليصبح القرآن كتابا عالميا بحق، فلن يكون القرآن كذلك لمجرد أننا نريده، ولكن يصبح كذلك عندما نعمل على تحريره من القيود التراثية التى تحيط به، وتكبله، لكن الوداع كان باردا وشاتما وشامتا ومتخلفا ومنحطا.
عندما أتامل فى سيرة نصر أبو زيد أتأكد تماما أننا لا نستحق أمثاله من المفكرين الكبار، خسارة فينا علمه وحياته واجتهاده… يكفيه أنه مات وهو راض عن نفسه، أما جزاءه فعند الله وحده.

نرشح لك

محمد الباز يكتب: إجهاض محاولات التفسير الأدبى للقرآن (القرآن في مصر 19)

أبو تريكة: هؤلاء اللاعبون ساندوني بعد التحفظ على أموالي

محمد عبد الرحمن يكتب: الجمهور لا يرحم

شارك واختار .. من أفضل ثنائي في إعلانات رمضان؟ أضغط هنـــا

بنر الابلكيشن