هالة منير بدير تكتب :وَنُّوس عامل فيها بني آدم !

لا يمتلك أرجل ماعز أو قرون كبش أو ذيل أحمر ينتهي برأس سهم، كما أنه لا يُمسك بيده عصا تنتهي بشوكة طويلة ثلاثية الأسنان، فهو ليس بلباسٍ أحمر كما رسمه صناع الرسوم المتحركة في خيال الأطفال، ولا بلباسٍ أسود كما يُحب أن يصوره صُنَّاع السينما ..

وإنما هذه المرة في صورة “بشر” ينفجر ضاحكاً في مصائب الناس، يقهقه لجلوس طفل مريض على كرسي متحرك، ويكركر عندما يُتَّهم بريء بجريمة قتل، وكما يذهب للغافل في كباريه “الحياة” فإنه يُباغت المتصوف في “الحضرة”، والقس في “الكنيسة”، وينقض على من يُشمِّر ساعديه للوضوء، ويلازم الواقف بين يدي الله في الصلاة، ولكن المستعيذ من هؤلاء بالله هو من يستطيع أن يطرده من عقله، وأن يُخلي ويُصَفِّي سريرته من وسوسته ..

إنه “ونوس” الشيطان، يحيى الفخراني الذي لم تمنعه عيناه الخضراء من أن يتقمَّص دور الوسواس الخنَّاس، بل ويُقنعنا أنَّ الشيطان قد يكون على هذه الصورة حقَّاً، وهو ينفث في وجوه المبتلين به قائلاً : “وَنُّوووووس .. عمَّك ونُّوس”، تاركاً في صدورهم صراعاً بين وِزْر الخطيئة وبين النفس الأمَّارة بالسوء ..

تناوُل الشيطان صراحةً في مسلسل “ونوس” لم يكن منذ الحلقة الأولى، فلقد ظلت الحلقات تباعاً حتى الحلقة الرابعة أو الخامسة تقريباً مبهمة تُصوَّره بالرجل الغريب الأطوار، الذي يلبس ثوب الناصح الأمين المنقذ المخلص لأسرة صديقه القديم الغائب، حتى اتضح أن تلك الملاحقة ليست سوى غواية الشيطان في ثوب النصيحة، والوسواس في ثوب الإنقاذ، والخطيئة في ثوب الخلاص !

“أوقات بابقى عامل فيها بني آدم !”، قد يفهم البعض تلك الجملة مجردةً، بأن الشيطان قد يتجسَّد في صورة إنسان (كما جاء في بعض قصص السلف)، وقد يتعمَّق آخرون في المعنى الفلسفي الأقرب للمثل الشعبي “ما شيطان إلا بني آدم” إذ أنَّ من أعمال البشر ما يفوق وسوسة وألاعيب الأبالسة، التي يقف حينها الشيطان مشدوهاً في وصلة من التصفيق الحاد أمام جبروت الإنسان في شره، ولكن الدور الرائع للفخراني يجمع بين المعنيين حقاً فهو الذي يتشكَّل في هيئة آدمية وفي نفس الوقت يستمتع ويتسلَّى بنتاج وسوسته وكيف أن البشر عندما يُبْدِعون في الشر يفوقونه ويتفوَّقون عليه !

لقد تناول المؤلف الباهر عبد الرحيم كمال والمخرج الرائع شادي الفخراني الرمزية في أدق التفاصيل :

– ملابسه ذات الألوان الدافئة (الأحمر والبني) لون النار التي خُلِق منها وسيعَذَّب فيها..

– نفس الملابس بطول الحلقات حتى الآن، فالشيطان لا يغير ثوبه، ثوب الغواية والتضليل..

– عندما يسألونه عن عمله، يجيب بامتلاكه “ملاهي”، أي إغراء آدم وبنيه بلهو الحياة الدنيا، ذلك الوعد الذي قطعه على نفسه حتى يوم الدين (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) سورة ص الآية 82،83، (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) سورة الأعراف الآية 16،17

– “الحازوقة/ الزُغطَّة” التي تتملَّكه عندما يسمع أو يذكر كلمة “ربنا” ..

– انكسار ساق الإبن “عزيز” عندما يلاحق “ونوس” ليكتشف مكان إقامته ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ ) سورة النور الآية 21، (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) سورة البقرة الآية 208

– حتى اختيار الأسماء : الأم “انشراح” التي شرح الله صدرها ويسَّر لها عسرها ورفع عنها وزراً أنقض ظهرها على مدار عشرين سنة دون عائل، الإبن “فاروق” المفترض به الفيصل بين الحق والباطل ولكنه بوسوسة الشيطان يُخلط الحق بالباطل، الإبن “عزيز” أي القوي المنيع عن الذل ولكن طمعه الذي يغذيه الشيطان أصبح ذليلاً للمال، الإبنة “نرمين” المُفترض كاسمها أن تكون على قدر من النعومة والرقة ولكنها سليطة اللسان تُوَزِّع الاتهامات بقسوة وتجنِّي، الإبن الأصغر “نبيل” المفترض به الشرف ونُبل الشمائل والخصال ولكنه على شفا حفرة الإنجراف لهمس الشيطان والتورط في علاقة محرمة مع خطيبة أخيه “دُنيا” التي ترمز للمرأة الجميلة التي قد تغوي الرجل للوقوع في الخطيئة، والراقصة “حياة” واسمها المختار والمسمى به “كباريه حياة” كيف أن الحياة قد تكون لهو ومجون إذا أراد صاحبها ذلك ..

– حتى طريقة طرق “ونوس”على باب البيت فإنها تأخذ صورة مُرعبة، بأن الشر قادم ونذير الشؤم ضيف بالباب لا يستأذِن في الدخول ..

أما عن الوصفة السحرية التي يتسلل من خلالها عزازيل إلى قرارة نفسك، هي تحرى أضعف نقطة لديك، فقد ينسل للمرء من خلال خوفه على (زوجته وأولاده)، أو لحبه المال أو السلطة أو الشهرة، ويُزَيِّن له صغائر الذنوب حتى يرتكب كبائرها، ويكون تأثيره مضاعفاً إذا كانت ضحية وسوسته ضعيفة الإيمان أو مُثقلة بالخطايا والذنوب، فعداوة الشيطان للإنسان منذ خَلْق آدم حين أشعلت الغيرةُ منه نارَ كرهِه، وزادت بلعن إبليس وطرده من رحمة الله، وسيظل كذلك إلى (يوم يُبعثون)، ولكن كما جاء على لسان “الدرويش” في مسلسل “ونوس” : ( إيه يذل ونوس غير التوبة ؟!) ..

نرشح لك

هالة منير بدير تكتب: السيكوباتي فوق مستوى الشبهات 

هالة منير بدير تكتب: ما أتوقعه عن سقوط حر

شارك واختار .. ما هو المسلسل الكوميدي الذي تتابعه في رمضان؟ أضغط هنـــا

بنر الابلكيشن