آريج عراق تكتب: ملخص مشاهدة جديدة لبوابة محفوظ عبد الرحمن

مع إعادة عرض مسلسل “بوابة الحلواني” على قناة روتانا كلاسيك هذه الأيام، تنازعتني الشجون وذكرى العرض الأول لهذا العمل الكبير قبل ما يقرب من ثلاثة وعشرين عاماً، مازلت أعتقد أنه أحد أهم الأعمال الدرامية التاريخية في تاريخ الدراما المصرية، حيث يطل المجهود البحثي واضحاً مع كل حرف تنطق به إحدى الشخصيات وفي لغة الحوار نفسها، كما تبدو محبة مؤلفه “محفوظ عبد الرحمن” لمشروعه ذاك، وحرصه على ظهوره في أبهى صورة، وهو ما كان.

إلا أن المؤلف وقع في أكثر من إشكالية أثناء عمله، ظهرت كالتالي:

فمع عرض الحلقة الأولى كان من الواضح أن البطل هنا هو مشروع حفر قناة السويس الذي قلب حياة مصر رأساً على عقب، من خلال أسرة الحلواني المقيمة في قرية الفرمة (التي تحولت فيما بعد إلى مدينة بورسعيد)، وأخذت الصورة تتضح أكثر لتؤكد أن التاريخ هو البطل الحقيقي، وأن المشروع هو إعادة كتابة تاريخ مصر الحديث بداية من حفر القناة (عصر الوالي محمد سعيد باشا)، ربما وصولاً إلى ثورة 1952، مع رؤية انسانية واعية تعتمد على خلفية معرفية تاريخية وسياسية قوية لحكام مصر في هذه الفترة الطويلة، والذين ينتمون بالكامل لأسرة محمد علي باشا مؤسس الدولة الحديثة، وتتباين مواقفهم وطريقة حكم كل منهم، بين من تراه كتب التاريخ وطنياً، ومن تراه عميلاً خائناً، بعيداً عن الأحكام الجاهزة والمسبّقة، وهو مشروع شديد الطموح بما يكفي لاستحالة تنفيذه.

الإشكالية الثانية تمثلت في الجانب الفني للعمل الذي حقق نجاحاً جماهيرياً ملحوظاً في ذلك التوقيت، حيث ارتبط الجمهور بالشخصيات الدرامية وبات ينتظر معرفة مصائرها، هل ستعود “أصيلة” (التي أصبحت ألمظ) إلى أهلها؟ هل من الممكن أن يرتبط حمزة الحلواني صاحب الأصول المصرية البسيطة، بالأميرة أشرقت عثمانية الأصل؟ حتى الخديو اسماعيل ورجله الأول اسماعيل صديق (الملقب بالمفتش)، تحولا مع الأحداث إلى شخصيات درامية مثيرة، تملك كينونتها الخاصة، فكان من الطبيعي أن يتحول هذا النجاح إلى عبء على المشروع الأصلي، قادر على تحويل مساره تماماً.

أما الإشكالية الثالثة فهي وقوع المؤلف في غرام بعض شخصياته، خاصة التاريخية منها، وبشكل أكثر تحديدا شخصية الخديو اسماعيل، الذي استطاع عبد الرحمن أن يقدم رؤية عنها، تختلف تماماً عن السائد في كتب التاريخ والمواد الدرامية السابقة عليه، فهو ليس ذلك الرجل السكير العربيد، الذي لا يهتم إلا بنزواته النسائية (راجع فيلم ألمظ وعبده الحامولي الذي قُدم في بداية الستينات من القرن الماضي)، بل هو حاكم طموح، صاحب مشروع قومي، هدفه الأول الانفصال بمصر عن التبعية العثمانية، وبناء دولة حديثة، على غرار ما فعله جده ووالده في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولكن بتبني النهضة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، بديلاً عن القوة العسكرية، حتى لا يقلّب عليه القوى العظمى في ذلك الوقت (إنجلترا وفرنسا).

كيف تعامل المؤلف إذن مع تلك الإشكاليات؟

بداية، لم ير عبد الرحمن أنه أمام إشكاليات من الأساس، بل على العكس، اعتبر أنها نقاط قوة منحت المسلسل رونقاً زاد من نجاحه، فكان من السهل عليه التحول في مشروعه من كتابة تاريخ مصر، إلى كتابة تاريخ الخديو اسماعيل، والاحتفاظ بالنسق الدرامي الذي أصبح هو بطل العمل، مع تحويل شخصية الخديو من شخصية جانبية (لا يمكن اعتبارها شخصية ثانوية من البداية) إلى شخصية رئيسية في الأحداث، وهو ما أدى إلى مشكلة أخرى، حيث اضطر إلى فرد مساحات أكبر له، وبالتالي أصبح مطالباً بمعلومات تاريخية أكبر وأكثر دقة، وهو ما أدى إلى تصادم بعض الحقائق التاريخية مع وجهة نظره، حادث كفر الزيات نموذجاً، فمع تجاهله لهذا الحادث في الجزء الأول، أصبح مضطراً للمرور عليه في الجزء الثاني، وتبرئة ساحة الخديو من تهمة قتل شقيقه أحمد رفعت وباقي ورثة العرش في حادث انقلاب القطار بهم من فوق كوبري كفر الزيات، فنجده يمر مرور الكرام على هذا الحادث مؤكدا على سان الخديو، أنه لا يمكن أن يقوم بمثل هذه الفعلة!

كذلك نجده يقف عاجزاً أمام بعض الحقائق مثل زيادة النفوذ الأجنبي في مصر، وزيادة سخط المصريين على الرغم من النهضة المدعاة، وبالرغم من محبتهم جميعا للخديو! حتى يكاد يصل إلى واقعة بيع أسهم مصر في شركة قناة السويس، فنجده ينهي المسلسل بأكمله، معتبرا واقعة قتل اسماعيل المفتش هي بداية الانهيار، ولا داعي للاستمرار بعد ذلك، فكلنا نعرف ما حدث!
يرى عبد الرحمن أن الخديو اسماعيل كان محمّلا بالنوايا الطيبة تجاه البلد، ونسي أن الطريق إلى الجحيم مفروش بهذه النوايا، فحفل افتتاح قناة السويس مثلاً، كان الهدف منه إعلان استقلال مصر عن الدولة العثمانية بحضور أباطرة وملوك أوروبا، مما يجعل وجودهم اعتراف باستقلال مصر، لذلك حرص الخديو على دعوتهم بنفسه (وخاصة نابليون الثالث امبراطور فرنسا)، لكنهم فطنوا إلى لعبته التي كانت تتعارض مع مصالحهم، وتصرفوا بطريقة أكثر ذكاء، فأرسلوا ممثلين عنهم لا يمثل وجودهم أي ثقل سياسي، فيفشل مشروع الاستقلال ببساطة! ورغم تبنيه لوجهة النظر تلك، لم يحرص عبد الرحمن على طرحها بالشكل المناسب، فمرّ عليها أيضاً مرور الكرام، ولم يتعرض للنتائج السلبية لهذا الحفل كبداية لتراكم الديون على مصر.

على الجانب الفني، نجح الممثلون في تقديم أداء مبهر للشخصيات، مما زاد من العبء على أكتاف المؤلف، وجعله ينحاز لهم على حساب مشروعه، من منّا لم يتعاطف مع اسماعيل المفتش (الشخصية البشعة تاريخياً) بناء على الأداء الخلاب لأسامة عباس مثلاً؟! وهكذا يصبح من المستحيل الاستمرار في المسلسل دون وجود المفتش (الذي قتله الخديو عام 1876)، في المقابل لم أجد غضاضة في تحريف بعض الأحداث الصغيرة عن مسارها التاريخي بما لا يخل بالمنظومة، ويمنح المزيد من الثراء للجانب الدرامي، وعلى اعتبار أننا لسنا في حصة تاريخ (مثل قصة حب عبده الحامولي للأميرة أشرقت، أو محاولات الدولة العثمانية اغتيال الخديو بشكل متكرر لم ينجح بالتأكيد).

في النهاية، ورغم كل تلك الملاحظات، لم أفقد استمتاعي يوماً بهذا العمل الجميل، فمناقشته بهذا الشكل تعني أنه عمل يستحق المناقشة، وأن المجهود المبذول فيه يستحق التحية، رغم مرور ما يقرب من ربع القرن على تقديمه.