محمد الباز يكتب: لماذا يكرهوننا ؟ (1)

الصحافة فين… التعريض أهو؟

هل سمعت هذا الهتاف ولو لمرة واحدة فى مدرجات كرة القدم؟

لا تنكر، مؤكد أن الجملة اقتحمتك.

كررتها ربما اعجابا بها، وربما إيمانا حقيقيا بأنها تعبر عن الدور الذى تقوم به الصحافة فى مجتمع يعانى من الفساد والمحسوبية والظلم والكذب والغش والتزوير والتعريض بمعنى اخفاء الحقائق والشوشرة عليها لتزيين حقيقة أخرى للناس.

كان هذا الهتاف العبقرى الذى لا أعرف بالطبع من صاغه للمرة الأولى، تعبيرا من جماهير تعترض على قرار متعسف من حكم يعتبر هو السلطة الأعلى فى المربع الأخضر.

لم يكن أمام صاحب الهتاف الشهيرة إلا استدعاء استدعى ( الصحافة) الوسيلة الوحيدة التى يعرف أنها قادرة على فضح العوار وكشف الفضيحة ومواجهة الاعوجاج، ووضع كل منحرف فى وضعه ومكانه الطبيعى.

راسخ فى يقين الناس فى مصر إذن أن الصحافة يمكن أن تكون عونهم وسندهم فى مواجهة من يجور عليهم؟

إذا أردت أن تتأكد من هذا الكلام فجرب وفتش فى أرشيف الصحافة المصرية منذ خلقها الله – عمرها الآن يقترب من مائتى عام… تأسست فى العام 1828 – ستجدها لسان الجميع عندما يعجزون عن الكلام، هى عينهم عندما يحجب عنهم الآخرون النور، ليس لأن وظيفتها تسجيل العالم فقط، فيمكن ببساطة أن نسجل العالم على هوانا وكما نريد، ولكن لأنها بدون رفع الظلم عن كاهل المكلومين والمتعبين والحائرين وقليلى الحيلة لا تساوى شيئا.

يدرك الصحفيون فى مصر هذه الحقيقة لا يغادورنها أبدا، يشعرون أن لديهم حصانة، لأنهم يعتقدون أنهم وبدفاعهم عن الناس، إذا ما تعرضوا لمكروه، سيكون الناس ظهرهم وسندهم، يدافعون عنهم ويردون كيد من يكيد، استراحوا لذلك واستكانوا دون أن يعرفوا أن جمورهم دائما كانت له وجهة نظر أخرى.

عن نفسى لم أعتقد هذا الاعتقاد يوما من الأيام.

فمنذ أن عملت فى هذه المهنة – عمرى فيها الآن يقترب من العشرين عاما – وانا أعلم أنها مهنة مكروهة، يبغضها الناس ويلعنونها، ويتمنون زوالها من على الأرض.

لا فرق فى ذلك بين من يحكم ومن يحكم ( فتحة وضمة على التوالى).

من يصدر الأوامر ومن يتلقاها.

من يتظاهر ليحصل على حقه، ومن يسعى لقمع كل متظاهر، لأنه لا يريد أن يسمع إلا صوته.

من يجلس على قمة السلطة، ومن يخطط لزوالها من تحته.

( أحد الوزراء فى عصر مبارك أتعبته الصحافة وأتعبها كثيرا، أخبر مقربين منه أنه يريد تعليق لافتة على مدخل وزارته يكتب فيها: ممنوع دخول الصحفيين والكلاب).

لا فرق فى ذلك بين تجار المخدرات وأئمة المساجد الذين يلهبون ظهورنا بقال الله وقال الرسول، رغم أنهم لا يعرفون كثيرا عما قاله الله أو قاله الرسول.

( أحد الدعاة المدعين بعد حملة صحفية دعوت فيها إلى تنقية كتب التراث من الأحاديث الكاذبة التى تسيئ إلى السلام وتحط من شأن وكرامة نبيه الكريم، دعا الناس من على شاشة قناة سلفية إلى مقاطعة الصحيفة، ونزل بنفسه إلى بائعى الصحف يقول لهم أن بيعهم لهذه الصحيفة حرام، وكانت النكتة أن الأزهر أصدر فتوى يتهم الصحف التى تتحدث عن تنقية التراث بمعاداة الاسلام والعمل على هدمه).

لا فرق فى ذلك بين من حصل على أعلى الدرجات العلمية، يجلس منتفخا ليقيم الصحافة من برج عال، والصيع الذين لا يعرفون عن الصحف إلا أنها أوراق يخفون فيها مزاجهم داخل أكياس سوداء وتمسح بها زوجاتهم الزجاج، أو تفرشها على الأرض حتى لا تتسخ من بقايا الطعام.

لا فرق بين الفقراء الذين تكشف الصحافة ترديهم وتهافت فسادهم وانحرافهم الأخلاقى واستعدادهم لبيع ذممهم وضمائرهم من أجل لا شئ، و بين الأغنياء الذين يعتبرون الصحافة خطرا على ثرواتهم ونفوذهم.

( أحد رجال الأعمال كان يستضيف مجموعة من أصدقاءه على مأدبة غداء فخمة، وجاء الحديث خلال الطعام على سيرة الصحفيين، فسألهم: انتو عارفين الصحفيين بالنسبة لنا ايه؟ لم يقاطعه أحد، فأكمل كلامه: إنهم مثل كلاب تنبح علينا ونحن

نأكل من هذه المائدة الفخمة، وحتى نستريح لابد أن نرمى لهم بعضا مما نأكل، وإلا فلن يتركونا فى حالنا أبدا).

الصحافة طوال الوقت على استعداد لمناصرة الجميع، لكنها عندما تقع فى مأزق لا تجد من يدافع عنها.

ما يحدث هو العكس تماما، الكل يهاجمها ويتكالب عليها ( والتعبير صحيح تماما).

فجأة تطاردها اللعنة وكأنها المسئولة عن كل الخطايا التى شهدها هذا الكوكب التعيس، منذ خروج آدم من الجنة وحتى سقوط طائرة مصر للطيران فى البحر المتوسط وهى فى طريقها من باريس إلى القاهرة.

هذا الاعتقاد الذى أدركته بحكم دراستى لتاريخ الصحافة المصرية، وقراءاتى فى سير الصحفيين من صدق منهم ومن كذب، وبحكم احتكاكى بفئات كثيرة ومتنوعة ومتناقضة ومتضاربة ومتنافسة خلال عملى الصحفى، جعلنى أندهش – قليلا ما أفعل ذلك – من زملاء صحفيين هالتهم حالة الكراهية التى أحاطهم بها المجتمع كله أثناء الأزمة الشهيرة التى نشبت بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية على خلفية إقتحام النقابة من قبل رجال الأمن للقبض على زميلين صحفيين صدر بحقهما أمر ضبط وإحضار دون الإلتزام بصحيح القانون.

انتفضت النقابة لكرامتها، ووقف الصحفيون للدفاع عما تبقى من حقهم، اعتقدوا أن الرأى العام سيقف إلى جوارهم، انتظروا أن يأتى إليهم من فئات المجتمع المختلفة من يهتف إلى جوارهم، قالوا ظنوا أنهم وقفوا فى ظهر الجميع، وحتما سيرد هذا الجميع الجميل، لكن ما حدث كان فوق التوقع والاحتمال معا.

وجد الصحفيون أنفسهم وسط حلقة من الكراهية المطلقة، الجميع يتعدى عليهم باللفظ، وذهب المواطنون الشرفاء المدفوعين إلى اعتراض طريق الصحفيين إلى نقابتهم، لتتم هناك أكبر عملية انتهاك على الإطلاق، وجد من انتظروا مناصرة الشارع أنفسهم فى مواجهة طوفان من الحقد المقدس، الذى لا يبقى ولا يذر، سباب وشتائم واتهامات، هذا غير الاحتكاك البدنى، فقد أراد بعض الغاضبين أن يضربوا الصحفيين وينكلوا بهم.

لم يكن فيما حدث أى شئ جديد بالنسبة لى، الكراهية طول الوقت موجودة، لكن من يحملونها فى قلوبهم وجدوا فرصة مناسبة لإظهارها والتعبير عنها، اعتقدوا أن النظام غاضب على الصحافة، لا يطيقها، وعليه فالهجوم عليها مطلوب، الانتقاص من شأنها واجب مقدس، إهانتها توجيه سياسى لابد من تنفيذه، والحقيقة أن من فعلوا ذلك أجادوا فى تأدية أدوارهم التى كشفت كراهية مجتمع كامل لوسيلة المفروض أنها ظهره وسنده.

هل تتوقع منى أن أدافع عن الصحافة؟

أتهم كل من يكرهها بأنه حاقد ومدفوع وممول.

لا تنتظر منى ذلك.

سأعترف أولا أنهم يكرهوننا ( وهم هنا أقصد بها الجميع بمن فيهم بعض من يعملون فى المهنة)، ثم أبحث معك عن أسباب هذه الكراهية، فبعضها فيهم، وبعضنا فينا.

لا أريد من التفسير أن يدلنا على الطريق لحصار هذه الكراهية، فهى لن تنحصر أبدا، لأن الصحافة لن تتوقف عن الكشف والفضح والوقوع فى أخطاء، والناس لن يكفون عن اتهامها بما فيها وما ليس فيها، يبدو أن الحكاية قدرية… وللأقدار كلمة لا يردها أحدا.

انتظروا الحلقة الثانية بعد غد الأربعاء.