حسام مطر يكتب: برامج الترفيه العربية و"حرب الأفكار" الأميركية

سادت وسائل التواصل الاجتماعي في الإسبوع الماضي موجة عارمة من التفاعل مع أحد برامج الترفيه ذات الأصل الأميركي، والذي تبثّه أكبر إمبراطورية إعلامية (خليجية) في الشرق الأوسط. وبعكس البرنامج “الترفيهي” كان الجدل المثار سياسياً حول الفائز السوري وأسباب عدم رفعه علم بلاده. ليس هذا البرنامج إلاّ واحداً من سلسلة مشابهة من نسخ “محلية” لبرامج شهيرة في الغرب، تكتسح المشهد الإعلامي منذ سنوات في منحى تصاعدي. يضاف لهذه البرامج الترفيهية، موجة المسلسلات التركية التي تغزو الإعلام العربي منذ 2008. هل لهذه البرامج أبعاد سياسية ممنهجة ومقصودة، أم أنها نشاط طبيعي من التفاعل الثقافي أو السعي للربح المادي؟.

برامج الترفيه في سياق
الخيط بين الثقافة والسياسة رفيع جداً، فالتقارب الثقافي يُسهّل التعاون السياسي. والانجذاب الثقافي يقلّص العداء ويعزز فرص التوافق السياسي. هذا الشق الثقافي هو محوري في إستراتيجية واشنطن منذ نهاية ولاية بوش القائمة على “تهميش المتطرفين ودعم بدائل معتدلة” في سياق “حرب الأفكار” في الشرق الأوسط. هذه الإستراتيجية بحسب جايمس غلاسمان – أحد من تناوبوا على رئاسة قسم الدبلوماسية العامة في وزارة الخارجية الأميركية – هي إستراتيجية “تهميش وتحويل”. تهميش أفكار وثقافة “المتشددين” عبر نزع شرعيتها الأخلاقية والاجتماعية، وتحويل المسلمين نحو بدائل “معتدلة وبناءة” من خلال الجذب الثقافي، الموسيقي، الفني، الرياضي…إلخ، ولكن ليس عبر وسائل أميركية بل “وكلاء ثقافيين محليين”.

كانت الإمبراطوريات الإعلامية الخليجية سباقة في إدخال هذه البرامج الى الفضاء العربي. خلصت إحدى وثائق “ويكيلكس” المسربة والصادرة عن السفارة الأميركية في الرياض الى أن هذه “الإمبراطوريات” أثبتت أنها “وكيل مؤثر” في معركة كسب عقول وقلوب المسلمين العاديين. يقول مصدر سعودي، بحسب الوثيقة، إن المجتمع السعودي أصبح مذهولاً بالثقافة الأميركية لدرجة لم يسبق لها مثيل بفعل هذه البرامج.

تقع هذه البرامج ضمن ظاهرة “التفريغ السياسي” للإعلام، أي تقليص المضمون السياسي للبرامج، حيث إن الإغراق بالترفيه يجمع أكبر شريحة اجتماعية (بعكس البرامج السياسية التي تثير الريبة وينقسم حولها الجمهور)، ويخرجها من “المجال السياسي” فيبعدها عن الانخراط في النضالات والقضايا السياسية والاجتماعية، و”يدجنها” ثقافياً على فترة طويلة بما يترك أثره السياسي في مرحلة لاحقة.

أما فيما يخص فكرة المسلسلات التركية فهي تأتي في سياق مشابه، فتركيا تؤدي دور وسيط ثقافي بين المسلمين والغرب، فالعنوان الإسلامي لتركيا يمنح إنتاجها الثقافي مشروعية لقبول أوسع من المشاهد العربي والمسلم. هذه المشروعية بالإضافة لمظاهر الحياة الغربية، والدبلجة باللغة المحكية، والبعد التقني والفني في الإنتاج التركي، كلها عوامل تضافرت لإنجاح هذه التجربة.

تجربة المسلسلات التركية هي نتاج لفكرة أطلقها جملة باحثين في دراسة لمركز “راند” عام 2007، وهي فكرة تقوم على “عكس تدفق الأفكار”. وخلاصة هذه الفكرة هي أنه بدل محاولة الـتأثير الأميركي المباشر على الأفكار والثقافة في العالم العربي، حيث المجال الثقافي معقد جداً ومعاد للغرب والحداثة، فإنه من الأفضل أن تؤثر الولايات المتحدة في الأفكار والثقافة في بلدان إسلامية أكثر قبولاً للغرب مثل تركيا وماليزيا، ثم تجري ترجمة الإنتاجات الثقافية والفكرية “المعتدلة” لهذه الدول الإسلامية الى العربية وبثها في الفضاء العربي.

واقعاً، حققت هذه البرامج نجاحاً باهراً لا سيما بين فئة الشباب العربي. وقد بلغت شدة التأثيرات الاجتماعية للمسلسلات التركية مثلاً، حد إصدار فتاوى دينية تدعو الى تحريمها.

لا نهدف من خلال هذا العرض الى “وعظ” المشاهدين العرب ودعوتهم الى اجتتاب هذه البرامج، بل لخلق حالة وعي حول هذه البرامج، سياقها، غاياتها، وتأثيراتها بما يحفز الحس النقدي والحذر عند المشاهد، ونقله من حالة المتلقي السلبي الى متلقٍ أكثر حكمةً ودرايةً وبصيرةً في انتقائه وتفاعله مع المادة الإعلامية والثقافية التي تُعرض عليه. هذا القلق مرده أننا في علاقة غير متكافئة أبداً مع الغرب، لسنا في علاقة تفاعل طبيعية بل وضرورية، بل علاقة تبعية وهيمنة ثقافية بهدف إدامة تسلط الإمبراطوية الأميركية على شعوبنا.

القدرات الترويجية والتسويقية الهائلة لهذه الإمبراطوريات الإعلامية تستوجب، بالحد الأدنى، هذا الوعي والخروج من العفوية والبراءة في التعامل مع هذه البرامج القائمة على الحنكة والمكر والتخطيط بل وقل “المؤامرة” (رغم الوقع السلبي للعبارة).

بالطبع المطلوب أيضاً من وسائل الإعلام الملتزمة تقديم بدائل، قدر المستطاع، والخروج الى الابتكار والتحول من التلقين الى التفاعل وسواها، بما يتناسب مع الضوابط والموارد المتاحة. وأيضاً، لا بد من إتاحة المجال وخلق الفرص لدخول أكبر شريحة ممكنة (خاصة الشباب) الى حقل التأثير والمشاركة والقرار في النضال السياسي – الاجتماعي بأشكاله كافةً، وعدم الاكتفاء بالتعبئة السياسية الجماهيرية.