خالد الغول يكتب: ميلاد، وبهاء، والشهداء .. عِيدٌ يبحَثُ عن مُحتَفِلِين

احتفالاً بعيد الميلاد المجيد نظم مركز يبوس الثفافي في القدس حفلاً  للأطفال، يزيح القتامة ويفسح المجال للفرح لكي “نزيد عيد الميلاد “بهاء” ، ولكي تكون أيامنا كلها “مرح” ، ولكي تشع الارض من “نور” ليالينا، وتقوم القدس مع “فادي” الانسانية.. وتعود البسمة والبشارات الى أطفالنا…  ” كما جاء في دعوة الحفل.

وخلال الحفل الذي حضره أطفال من أعمار مختلفة، من شرائح اجتماعية اقتصادية متنوعة، وفي أجواء اجتماعية ثقافية عبرت عن تنوعِ وحيويةِ مدينة القدس، فرح الاطفال بتزيين شجرة عيد الميلاد والاغاني والمقاطع المسرحية الغنائية والراقصة وبافلام الكريسماس وبهدايا سانتا كلوز والبلالين والصور التذكارية، وخلال هذا الجو الاحتفالي البهيج كان يتنقل بين القاعات بفرح غامر وبهجة صافية مناضلان من القدس هما محمد  عليان والد الشهيد بهاء عليان وسعيد عياش والد الشهيد ميلاد عياش.

أَدهَش الجميع هذا الأثر الانساني القوي الذي تركه حضور هذين المناضلين في حفل عيد الميلاد الذي قرر كثيرون من ابناء الشعب الفلسطيني الا يُدرجوه في برامجهم الاحتفالية في هذا العام، المعَمَّد بالدم، والذي يودِّعونه وهم مثخَنون بالحزن والوجع والمعاناة، فأضاءا في شارع الزهراء شموعاً أطالت أمد النور فيه، وهو الذي ينطفىء قبل السابعة في مساءات القدس العادية.

لقاء جَبَلين شامخين تحقق في هذا الحفل، انسابت خلاله الدموع والتداعيات التي غزت العيون والخواطر ، سعيد عياش يتذكر ويقول ”  التقيت بمحمد عليان منذ ان جمعنا القيد والاعتقال للمرة الأولى في سجن كفار يونا في العام 1975 ، وجمعتنا علاقة صداقة حميمة نبعت من الكثير  من القواسم المشتركة، فقد وجدت فيه إنسانا نقيِّاً طاهر النوايا وَفِّياً ووطنياً غيوراً، دمثَ الاخلاق طَموحاً وحالماً .. وقد توطدت صداقتنا بعد صدور الأحكام ( بالسجن المؤبد ) ونقلنا الى سجن الرملة، ثم بئر السبع وحتى تحررنا في صفقة تبادل الاسرى عام 1985 ، واستمرت العلاقة بعد تحررنا وعملنا معاً في مجال الترجمة .. وفي يوم (سقوط) ولده بهاء كنت عائداً للتو من برشلونة، وحين سألتني ابنتي وعد عقب وصولي للبيت : أليس هذا بهاء ابن صاحبك محمد عليان ؟! حدَّقت في الصورة وشعرت بحزن وصدمة ذكرتني بصدمة فاجعة “ميلاد”،  وحين ذهبت مسرعا الى بيته وعانقته لم اتمالك نفسي فانفجرت بكاءً كطفل” .. أما محمد عليان فانتبه الى ما كان غائبا عنه في الذكريات، وشكر “يبوس” على هذا اللقاء الموجع والممسك بذكاء بخيوطٍ ولحظات هربت هنيهة من اصحابها، فعاد الخيط ليشدُّهما الى مرحلة نضرة، أهم ملامحها الدفء المفقود اليوم والمبتغى بإلحاح في هذه اللحظة الخاصة، وكتب ابو خليل  “غلبتني دمعة ابلغ من اي كلام حين عانقت رفيقي في القيد والفقد وكل الوجع .. في مركز يبوس كان الـ ميلاد العيد والشهيد في غاية الـ بهاء، وكان البهاء كما لو انه في ميلاد جديد وبينهما الاطفال مع كل البهجة والفرح والحياة.”

ثم عاد سعيد ليؤكد على أهمية أن تستمر الحياة في تدفقها  فقال  ” نديم، ميلاد، محمد، أيمن، بهاء، وغيرهم وغيرهم ،هي الأسماء فقط مختلفة، هي المواعيد فقط مختلفة، هي الأماكن فقط مختلفة.. لكن الحكاية هي ذات الحكاية.. حكاية نفس القاتل ، حكاية نفس الشهيد، حكاية فلسطين المقتولة التي تأبى أن تموت، حكاية أطفالها وشبانها الذين يتشبثون بذات الحلم ، حلم ابائهم وأمهاتهم ، فأخذوا على عواتقهم ، بتضحيتهم، تذكير العالم ، تذكير قاتلهم، أن هناك شعب ما زال يحلم بالحرية وبوطن حر وحياة طبيعية يدفن فيها الأبناء آباءهم، ويذهب الأطفال الى مدارسهم ومهاجعهم دون خوف او قلق عليهم من أمهاتهم ٠٠”  ويستلم محمد عليان خيط الفكرة ليضيف ”  المقاومة لا تنتقص من الفرح بل تضفي عليه البهاء والوهج .. نعم لفعاليات بسمة فرح في مدارسنا، نعم للاستمرار في الافراح والمناسبات السعيدة، نعم ثم نعم لانارة شجرة عيد الميلاد التي يجب ان لا تنطفيء ابدا، نعم لكل نافذة فرح، لا والف لا لتكريس الحزن ، نحن نقاوم لنعيش و”نفرح” لا لـ “نموت ” ونحزن” .. كتب (ابو البهاء)  هذا الكلام وهو يؤكد على عمق وتلازم التجربة الواحدة المتعددة، والارتباط الوشيج بين معاناتين ودمعتين وإصرارين ثم يؤكد  “سعيد والد الشهيد ميلاد، من قلمه يولد الفرح ويزهر ويفوح عطره،  وأنا والد شهيد لا يزال يحلم بتوديع البهاء، ويقتل الحزن بلحظات خالدة من الفرح.. كلاهما رسالتنا .. الطفل زهرة لا يجب ان تُقطف في غير أوان.”

وفي غمرة حماسه وبهجته ، وخلال عرضه بعض الصور على هاتفه المحمول  لبهاء مع بعض الاطفال يلعب معهم ويلتقط صورا بهلوانية وتهريجية مفعمة بالفرح، علَّق والده ابو خليل ” بهاء يعشق الاطفال، تظنّه طفلا وهو معهم ، يحب الحياة والفرح، ومن أجل فرحٍ قادم للاطفال فعل بهاء ما فعله.. وعلى الذين يكررون شعار ( من حقنا أن نفرح) ان يعلموا ان المحرومين من الابتسامة والمظلومين هم الذين يجب ان يرفعوا هذا الشعار، وليس المرفهين والمنعمين الذين لا يعانون او يتعرضون للمخاطر التي يتعرض لها اطفال القدس واطفال فلسطين المقهورين. نحن في القدس ننتزع الفرح انتزاعا ولا نرفعه فقط كشعار  من اجل المزيد من الرفاهية والتخفف من اعباء الحياة المفروضة علينا تحت الاحتلال” ..

من أجل ميلادٍ بَهيٍّ مليءٍ بالفرح، ومن أجل بهاءٍ يتوالد في أركان الوطن المتحرر والمعافى من أوجاعه وأحزانه، ناضل محمد عليان وسعيد عياش، وكلاهما كان على وشك أن يفارق الحياةَ خارج القضبان أو خلفها، إلا أنه قُدِّر  للأكتاف أن تبقى مشرعة للأعباء الثقيلة، وأن يبوح الصوتان المتحشرجان بحكمة، وببراعة، رغم تثاقل لسانين تَعِبا من التنهد والاسئلة، ومن رصف المساحات دون ثرثرة ، فكان لكل منهما مشهده الواحد المتعدد  البليغ والرصين ..

لم ينتظر ميلاد وبهاء حلم أبويهما الطويل كي يأتي فذهبا هما إليه،  فاسم ميلاد كما يقول ابوه سعيد امتداد لذكرى ” الشهيد الطفل ميلاد شاهين من بيت لحم الذي اعدم برصاص المحتلين، كما الكثيرين من امثاله ابان انتفاضة الحجارة في العام 1989، وقد استبشرنا في مولد ميلادنا بشرى بقرب بزوغ فجر الحرية على شعبنا المنكوب ووطننا المسلوب . والذي استشهد في تاريخ 15\5\2011، ذكرى النكبة، عن  (15 عاما)..  وكذا كان حلم محمد عليان ، أن يرى أبناءه وجيلهم ينعمون بالحرية والكرامة، لكنه ما زال حتى لحظة كتابة هذه السطور ينتظر أن يتحرر جثمان ابنه المحتجز  منذ يوم استشهاده  في 13/10/2015  في ثلاجة تموت فيها كل يوم اشياء كثيرة، في ظل صقيع الموقف، والصمت المحيط، والخذلان، والتخلي..  يقتله السؤال ولكنه يتدفأ بما لديه من وصايا تركها بهاء تنثر الحرارة في جسد الفرح والحياة، وفي براءات الطفولة التي طالما لاعبها الغائب مثل مُهرِّجٍ أحياناً ، ومثل فراشة في أغلب الأحيان ..

إقرأ للكاتب

خالد الغول يسأل هشام الجخ: لماذا الإصرار وما الثمن؟ 

خالد الغول يكتب: جيل الذين كفروا 

اقـرأ أيـضـًا:

قائمة الأحداث التي شغلت الرأي العام في 2015 

بائع الفريسكا.. أخذ المنحة وترك هذه التناقضات

7 ملاحظات على الصورة “السباعية” المثيرة للجدل

أحمد موسى وخالد يوسف.. التنازل بالصمت

إعلام.أورج يرصد أبرز 93 حدثاً إعلامياً في 2015

عمرو قورة : نسعى للوصول بالنجوم العرب للعالمية

12حلقة من 2015 صالحة للعام الجديد

أفضل 8 ضيوف زاروا المشاهد في 2015

 .

تابعونا علي تويتر من هنا

تابعونا علي الفيس بوك من هنا