طارق عباس يكتب: وما أدراك ما الثلاثينات!

منذ سنوات قليلة، لم أكن أقابل كل تلك الكتابات عن ما يسمى أزمة منتصف العمر، ولم أهتم كثيرا بمطالعة تلك المقالات الشبيهة بالتحليل النفسي عن مرحلة الثلاثينات من العمر، فالاهتمامات كانت مختلفة، والخروج من مرحلة المراهقة الفكرية كان البداية الخفيّة لهذا الطريق الموحش، الذي يضع بصماته على كل أنشطة الحياة اليومية، حتى خلايا المخ نفسها تبدأ أوتوماتيكيا في التعامل مع الأمر بكل جدية، إنه الاكتئاب التدريجي، والقلق من القادم.

في عائلتنا، مات ابن عم والدي وتبعه عمي، ولحق بهما الأب والسند، وهم في الخمسينات تقريبا من عمرهم الذي انقضى، في البداية، لم أكن أفكر في الأمر أنه قد يكون مصادفة أبدا، وبدأت أشعر بأن أصحاب الصفات المتقاربة يموتون في مرحلة عمرية متقاربة، وفي المقابل لم أشعر أني أريد مقابلة الأمر بإحساس التشاؤم، فثلاثتهم كانوا غير مدخنين، بينما أنا أدخن بشراهة مؤسفة، وجميعهم كانوا يتمتعون بالطيبة وحب الناس ولا أعلم إن كنت مثلهم أم يحسبني المقربون مني غير ذلك، لكن تلك الاختلافات بيننا كانت توحي بأن الأمور ليست بهذا الارتباط الشديد.

ربما لأن الموت هو الحقيقة الوحيدة، فلا مفرّ من التفكير به، حسنًا، فأنا أُذكّر نفسي أنني أتممت عامي الثلاثين، وكانوا يكتبون دائما أن أزمة منتصف العمر –المثيرة للسخرية أحيانا- تحدث بين سن 35-50 عاما، لكن الواقع المحيط بي كان يُكذب تلك النظريات، فهذه السنوات الخمسين لم تحتمل ست سنوات أخرى حتى قضى الله أجله ولم تكن أبدا منتصف عمر الأب، فمن يضمن أن يعيش للغد؟، حتى قرأت من كتب: قد يكون هدفك الأول في هذه المرحلة أن تظل حيا لليوم التالي!

أما الهواجس الخاصة بتغير نظرة المحيطين بك إليك، أو مناداة طفل لك بلفظ “يا عمو”، والقلق مما حققت في تلك المرحلة على المستوى المهني أو المادي، وكشف الحساب الذي يقوم به آخرون، لم يشغل كل هذا وغيره بالي كثيرا، لكني بالفعل قد تحولت اهتماماتي من نفسي لآخرين، لأسرتي، لأصدقائي، وحتى بعض الغرباء، وأصبحت لا أجد مساحة الوقت التي أقوم فيها بأشياء تسعدني، لكني قد أخلقها حتى أساعد هذا أو ذاك، وهو ما يعني أن هناك مؤشرات لتلك المرحلة الغامضة، وإن كانت مبكرة نوعا ما بالنسبة لنظريات المختصين.

بعد نهاية العشرينات، تشعر وكأن كل مشاعرك بدأت تتحول إلى المبالغة، الحب والعشق والتعاطف حد البكاء، والحنين للماضي، الإحساس بالآخرين، وتذوق الموسيقي، شعور الإحراج وإرادة التطور، وحتى الكراهية تبدأ في التضاعف، لكنك أيضا تستطيع أن تغض الطرف عن ما يثير فضولك القاتل، أو تستسلم لعجزك عن تحقيق شيء ما، أنت هنا تبحث عن الأفضل مما جربت طيلة السنوات الماضية، وعرفت من تلك التجارب ما يفيدك أو يضرك، لكنك قبل كل شيء تدرك -دون قصد- أكثر من أي وقت مضى، أن ذلك التفكير وتلك الإرادة وهذه الأصوات المتداخلة في العقل، والطموحات والخطط البرّاقة، قد تتوقف في لحظة، وتصمت إلى الأبد، مع تحول مؤشر ضربات القلب لخط مستقيم، وقتها عليك التأكد أنك تعاني لا إراديا من أزمة منتصف العمر.

لمتابعة الكاتب عبر فيس بوك من هنا

اقرأ أيضًا:

طارق عباس يكتب : مرتضى والعمدة.. من القفص للبرلمان!

طارق عباس يكتب: بابا الرئيس!

طارق عباس يكتب: عندما تألق مصطفى خاطر

طارق عباس يكتب: حظر نشر أم حظر حق دستوري؟

طارق عباس: “قناة السويس” وحدها لا تكفي!

طارق عباس يكتب: إلى “محلب”.. متى تستقيل؟

طارق عباس.. “بسمة – عراقي”: إنتوا بتشتغلوا إيه؟!

 .

تابعونا عبر تويتر من هنا

تابعونا عبر الفيس بوك من هنا