منطلِقاً من خلفيّات لا تعدم الاستقراءات الشخصية، لا سيما خلال منتصف السبعينيات وحتى أوائل الثمانينيات وربما إلى ما بعدها لحين وفاته، أميل إلى القول بأن طلال مدّاح بدا مقارنةً بمحمد عبده كما لو كان البديل الأشدّ نخبوية بالنسبة إلى المتلقّين العرب الذين ظلّوا يتطلّعون إلى أصوات وموسيقى خارج الإطار العربي الطربي المنمّط مشرقيّاً في مصر والشام والعراق، والذي لا يعرف من الثقافة الطربية المغاربية سوى حناجرها الذهبية المقتحمة للمشرق بقوة وثقة محظيّةً باستحسان ومحبّة عظيمين.
لكن تلك النخبوية التي نفترضها مع جماهيرية مدّاح في تلك الحقبة مقابل جماهيرية رفيقه محمد عبده لم تكن بداعي الأفضلية الفنية بالضرورة، فالأخير لم يكن أقلّ قيمة أو تميّزاً فنيّاً بحال، وإنما كانت من قِبل المتلقّي العربي بداعي نشدان مستوى من التميّز إزاء الموضة الخليجية التي عُرفت عربياً منذ الستينيات وبلغت ذروتها في السبعينيات عبر الصوتين/الإحساسين السعوديين العظيمين: مدّاح وعبده، وقد كان محمد عبده هو الأشد شهرة وأظهر اكتساحاً، بما يجعل طلال مدّاح خياراً جيّداً لمن ينشدون التميّز في التذّوق الفني لطرب خليجي لم يحمل حينها الكثير من الخيارات، بل لعل المطربَين السعوديين كانا حينها الخيارين الوحيدَين المتاحَين بوضوح وبقدر لا بأس به من التألّق في الساحة العربية على نحو جماهيري ملحوظ.
تلك إذن حالة شديدة الخصوصية في باب المقارنة بين مبدعَين متميّزَين على صعيد الطرَب أبحرا خارج محيطهما ليقتحما قِلاعاً شديدة التحصين وبالغة العراقة بالنظر إلى مجال الاقتحام الفني تحديداً وإلى غيره بصفة عامة على الصعيد الحضاري العربي والمشرقي.
الحالات خليجياً عديدة وبعضها أشدّ وضوحاً في الدلالة على مفارقة الانتشار مقابل التميّز، ليس بالضرورة انتصاراً للتميّز على حساب الانتشار في كل الأحوال؛ ففي الكويت مثال مختلف إلى حد بعيد ولكنه مغرِ ببعض التأمّل في سياقنا هذا. عبد الكريم عبد القادر وعبد الله الرويشد مطربان يحظيان بتقدير كبير كويتياً وخليجياً وحتى عربياً، ولكن أيّاً منهما لم يصل إلى تأثير طلال مدّاح ومحمد عبده في المحيط العربي، وذلك على الرغم من انتشار الرويشد الطاغي خليجياً، ودون إغفال تميّز عبد الكريم عبد القادر بصوتٍ شجيّ فخم كان سبباً مباشراً في تميّزه ذاك وفي انحسار معجبيه إلى دائرة ضيقة نسبياً حتى داخل النطاق الجماهيري خليجياً في الوقت نفسه.
بالعودة إلى الحالة السعودية، بل إلى طلال مدّاح تحديداً، وربما مقابل محمد عبده بصفة خاصة، بدا مدّاح رغم غنائه بالعديد من اللهجات العربية – ربما تودّداً صادقاً ورغبة في الانتشار في آن معاً – أشدّ حرصاً على التمسّك بالسمات الطربية السعودية، أو لعل صورته انعكست على تلك الشاكلة رغماً عنه، بتأثير لاوَعْيِيّ عميق؛ إذ كثيراً ما نحاول جميعاً – على اختلاف المقامات – أن نغامر بارتياد آفاق فكرية أو حتى مكانية جديدة لنجد أنفسنا من حيث لا نحتسب مقيمين حيث نحن، إنْ واقعاً وإنْ مجازاً.
محمد عبده أيضاً كان مستمسكاً بملامحه الطربية الخليجية/السعودية، لكن تلك الملامح حظيت على الأرجح بقبول عربي على نطاق أكثر رحابة، في حين بدت سمات مدّاح أشدّ تغلغلاً في الروح الخليجية/السعودية، فاكتسب خصوصيته من ذلك ومُنِيَ بتراجع نسبي في الانتشار مقارنة بمحمد عبده بسبب ذلك أيضاً.
توالت الأجيال السعودية والخليجية بعد مدّاح وعبده، وبعضها تزامن مع العملاقين الخليجيين ولكن بقدر أدنى من الانتشار والتأثير؛ وقد حققت الأجيال التالية من مطربي الخليج إجمالاً إنجازات كثيرة وحظي العديد منهم – رجالاً ونساءً – بالانتشار والتقدير على المستوى العربي.
وإذا كانت حظوة الانتشار تلك قد تحقّقت بتأثير مستحق من الآلة الإعلامية الضخمة التي بات الخليج مؤثراً في صناعتها بقوّة عربياً، فإن حظوة التقدير لأجيال الخليج التالية في حقب التسعينيات والألفية الجديدة من المطربات والمطربين بدت بدورها نخبوية إلى حدٍّ بعيد ضمن نطاق المختصين من المعنيّين بالموسيقى والغناء نقداً ودراسة وصناعة وإعلاماً؛ في حين لم تلقَ في الغالب تلك الأجيال الخليجية من حظوة المتابعة الجماهيرية العربية خارج الخليج حظوة مماثلة لما تمتّع به طلال مدّاح ومحمد عبده في أوج تألّقهما في سبعينيات القرن المنصرم وهما يقارعان أساطين الطرب العربي في أعقار ديارهم، إنْ لم يكن بذات القدر من التفوّق في الجماهيرية عددياً فعلى الأقل بقدر بالغ التميّز من خصوصية الطرب الخليجي، تلك الخصوصية التي أوغل فيها طلال مدّاح بقدر مضاعف من تميّز النخبوية على نحو ما رأينا.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])