مهند خيري
ينطلق الفيلم ابتداء من لحظة ذروة، لقطة سينمائية قوية ومحكمة البناء، ترسم ببراعة ملامح عالم الست وتؤسس لحالة
من التشويق الجارف. يصل هذا الإيقاع المتصاعد إلى ذروته في لحظة ظهور أم كلثوم على مسرح أوليمبيا، حيث نشهد الجمهور المحتشد، الذي تفوق حماسته الخيال، وهو يترقب نجمته من كل أصقاع العالم، مشهد يجسد عظمة الحضور الكلثومي.
يستهويني دائما أن أبدأ مقالتي بالشخصية المحورية، فهي القوة الدافعة للأحداث، ما يضع الفيلم تحت مظلة ما يعرف ب (Character-Driven)، أن تكون الشخصية هي الحبكة ذاتها، حيث الشخصية هي التي تقود المسار.
أم كلثوم (منى زكي): حضور طاغ وتجسيد ملهم
تظهر أم كلثوم، التي جسدتها منى زكي، كشخصية قيادية بالفطرة، لم تكن ترضى بالتنازل عن عرشها منذ طفولتها كما ظهر لنا بالفيلم. تملك ثقة بالنفس عظيمة، وهي ثقة وضعت في محلها، فكانت بالفعل إنسانة فريدة من نوعها في زمنها. يطرح السؤال المنطقي نفسه: هل كانت لتحظى بالمكانة والشعبية والقيمة ذاتها لو ولدت في عصرنا الحالي، زمن الهواتف والإيقاع اللاهث؟ قد تكون الإجابة "لا" من الناحية المنطقية لموازين الشهرة الحديثة. لكن، من الناحية الإنسانية، هي نموذج للنجاح في اي مكان وزمان، وتبقى مساهماتها الوطنية التي قدمتها في زمنها لم تتكرر ولن تتكرر. أم كلثوم لم تكن مجرد مطربة موهوبة، بل كانت كوكب الشرق.
أجادت منى زكي تجسيد هذا الهدوء الشديد ببراعة وتألق، حتى في نظراتها. وهو إنجاز صعب بالنظر إلى أن معظم المواد المصورة المتاحة لأم كلثوم هي ذات جودة ضعيفة لا تظهر هذه التفاصيل الدقيقة. لم تكن هناك مبالغة تذكر في الأداء، ربما باستثناء عبوس الوجه الذي كان أكثر حدة قليلا مما كان في الواقع، حيث كانت أم كلثوم أكثر ابتساما بدرجة ما. لكن بشكل عام، برعت منى زكي في أداء الدور، ويصعب تخيل ممثلة أخرى في مكانها.
الأسلوب السردي لأحمد مراد: بطل خفي
يعد الأسلوب السردي للروائي والسيناريست أحمد مراد بطلا خفيا آخر في هذا الفيلم. على الرغم من أن اللعب بين الأزمنة كان كثيفا، مما قد يُحدث إرباكا للحظات، إلا أنه لا يمكن تخيل الفيلم بترتيب مختلف للأحداث. لقد خلق مراد صراعا حيويا بين المراحل العمرية لأم كلثوم (الأربعينات، الخمسينات، وما تلاها).
كل زمن يبدو كقصة قصيرة متصلة داخل مجموعة قصصية أكبر، ولكل حقبة شخصياتها وأحداثها المختلفة مع ثبات بطلتنا. لقد أرانا السرد طفولتها وما مرت به، مما جعلني كمتفرج أقدر وأتفهم حدتها وقوتها في طباعها.
كان الفيلم مطابقا للواقع بدرجة كبيرة للغاية، باستثناء بعض النقاط التي لا تزال تحوم حولها الشكوك بأنها كانت محض
"صحافة صفراء" وليست حقائق.
الأغنية كوثيقة تاريخية وشخصية
في فيلم يتناول سيرة أيقونة غنائية مثل أم كلثوم، تتجاوز الأغاني دورها التقليدي كعنصر ترفيهي أو إضافة صوتية، لتصبح بطلا مشاركا و أداة سرد لا غنى عنها. لقد كانت الموسيقى والأداء في هذا الفيلم بمثابة الشريان الذي ضخ الحياة في جسد الحكاية
لم تستخدم الأغاني عشوائيا، بل كانت تعمل كوثائق زمنية وشخصية. كل أغنية تم اختيارها، أو جزء منها، لم يكن مجرد استعراض لأعمال أم كلثوم، بل كان يعكس بدقة المرحلة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، أو الحالة النفسية والدرامية التي تمر بها البطلة.
انعكاس للصراع الداخلي: في لحظات التحول أو الصراع، كانت الأغنية المختارة إما تنبؤا بما سيحدث، أو ترجمة صريحة لمشاعر أم كلثوم الداخلية تجاه التحديات السياسية أو العاطفية التي تواجهها.
تحديد معالم العصر: ساهمت المقاطع الموسيقية في إعادة بناء "المزاج العام" للأربعينات والخمسينات والستينات، حيث كانت موسيقى أم كلثوم هي السمة الغالبة على الوجدان المصري والعربي.
الإبهار الصوتي والبصري للأداء
أهم ما يميز المعالجة هو كيفية تقديم مشاهد الحفلات. هذه المشاهد لم تكن مجرد تسجيلات أرشيفية، بل كانت تقدم كأحداث سينمائية كاملة:
خلق حالة "الطرب": نجح مروان حامد في نقل حالة الانتشاء والطرب التي كانت تسود قاعات الحفلات. لم نشاهد أم كلثوم فحسب، بل رأينا تفاعل الجمهور، تلك الوجوه المتأثرة التي تعكس قيمة الفن كقوة موحدة.
براعة التزامن (Lip-Sync): أداء منى زكي المتقن، وتزامنها مع صوت أم كلثوم الأصلي، خلق مصداقية عالية. لم يكن الأمر مجرد محاكاة، بل كان محاولة لتجسيد روح الأداء الكلثومي في وقفته وحركته ونظرته، مما رفع من مستوى المشاهد الدرامية.
الأغاني كفاصل زمني ودرامي
في ظل الأسلوب السردي المعقد الذي اعتمد على التنقل بين الأزمنة ،عملت الأغنية كمرساة عاطفية للجمهور. لحظة سماع مقطع محبب كانت تسمح للمشاهد بالتقاط أنفاسه دراميا، قبل الدخول في خط زمني أو درامي جديد. هذه الفواصل الموسيقية كانت تعيد توجيه المشاهد إلى النبض الثابت لحياة البطلة وهو صوتها الخالد.
الأغاني في هذا الفيلم لم تكن زينة، بل كانت المحور الذي دارت حوله القصة. هي التي فجرت المشاعر، ووثقت التاريخ، وأعطت المصداقية الكاملة لأداء منى زكي، وجعلتنا ندرك لماذا كانت أم كلثوم بالفعل "الكوكب" الذي تتجمع حوله الأقمار.
السينما كسجل تاريخي للجيل الجديد
سيكون هذا الفيلم بمثابة نافذة لتعرف أجيال كثيرة، خاصة جيلي، على هذه القصص والوقائع التي حدثت منذ ما يقرب من قرن. على الرغم من أن هذه المعلومات موجودة وموثقة، إلا أن السينما تظل هي الوسيلة الأولى لاستقبال المعرفة لدى العديد من الناس؛ يفضلون مشاهدة فيلم مدته ساعتان بدلا من قراءة المعلومات في نصف ساعة. حتى أنا كدارس للفنون والسينما، لم أكن أعرف نصف هذه المعلومات عن تلك الأسطورة أم كلثوم، ولم أكن على علم بمساهمتها للجيش المصري بأربعة مليارات (في وقتها). ويسعدني معرفتي أن الفن قدم دورا فاعلا ماديا بجوار دوره الفني والمعنوي خلال أزماتنا وحروبنا.
إخراج وتصوير: ريادة وإبهار بصري
منذ الدقائق الأولى للفيلم، كانت ملاحظتي الأولى المدونة على هاتفي هي كلمة: الإخراج والتصوير.
كيف يكون هذا هو التعاون الأول بين العبقري مروان حامد والمتألق عبدالسلام موسى؟ الرؤية الإخراجية التي رافقها التصوير خلقت صورة لا تنسى؛ لقطات عظيمة. ولولا تدخل ”السنبلاوين"في الأحداث، لشعرت أنني أشاهد فيلما عالميا أجنبيا. الكادرات جميلة للغاية ومريحة للعين من حيث تناسق كل عنصر بصري. حتى وجوه الجماهير التي ظهرت لثوان معدودة كانت مناسبة تماما لتمثيل جمهور من جميع أنحاء العالم.
الإنتاج: الذي لا يقل سخاء عن كرم الست
بالانتقال إلى الناحية الإنتاجية، التي تضم كبار المنتجين وأهمهم: (تامر مرسي، وأحمد بدوي، ومحمد حفظي، وفادي فهيم، ووائل عبدالله، ومروان الكحكي، بالإضافة لدعم هيئة الترفيه)، يتضح أنهم لم يقصروا نهائيا حتى في أبسط التفاصيل. لقد صنعوا فيلما قادرا على منافسة الأعمال العالمية الكبرى. أنا حقيقة أفتخر برؤية السينما المصرية تتطور بهذا الشكل القوي، ليس فقط كإنفاق مالي، بل كسخاء فني على الفيلم من جميع النواحي.
أما عن نهاية الفيلم فقد أثارت إعجابي، حيث شكلت سردا للوقائع بشكلها الحقيقي الكامل، وكيف تفاعل الناس وتعاملوا مع وفاة أم كلثوم. لا يبقى إلا أن أقول أن فيلم الست يؤكد في النهاية إن: لا صوت يعلو فوق صوت الست.