ربما طرحتُ السؤال ذاته في مقام مستقل: تُرَى كم كان سيغدو عدد متابعي سقراط على حسابه الشخصي على إنستغرام أو تويتر/إكس أو فيسبوك أو أيٍّ من وسائل التواصل (الاجتماعي) الإلكترونية الأخرى على سبيل افتراض جدلي بوجود تلك الوسائل حينها مع نمط الحياة ذاته الذي كان ينتظم أثينا القديمة؟
وإذا كان سقراط فيلسوفاً ذائع الصيت، والأغلب أن صيته قد دوّى بعد مماته الدرامي/التراجيدي الذي غدا مضرباً للمثل على الشجاعة والفداء منقطعَي النظير على الصعيد الفكري، فإن التساؤل الافتراضي عن أعداد المتابعين على أيٍّ من وسائل التواصل يغدو أشدّ جدوى عندما يُطرَح بخصوص فلاسفة أدنى شهرة وشعبية من سقراط وأفلاطون وأرسطو وفيثاغورس: إيديسيا، أينيسيديموس، إيسخينس، أغابيوس، ألبينوس، أليكسيكراتس، أميليوس، أناكسيماندر، أريجنوت، كاليفون، كرانتور، زينوقراطيس؛ كل أولئك – والأسماء عن ويكيبيديا الإنجليزية – على سبيل المثال بطبيعة الحال.
نُضمِر، كما يتوقّع القارئ على الأرجح، إجابة "سلبية" مفادها أن أعداد المتابعين بالنسبة إلى أولئك الفلاسفة (وفيهم سقراط نفسه) كانت ستغدو – مع افتراضنا الجدلي هذا - قليلة؛ ولكن نسبة إلى مَن؟
سنغامر باعتبار نجوم مجتمع أثينا وما حولها قبل الميلاد المتنافسين على لقب "الأكثر شعبية" (باستثناء الحكّام) هم من ممثلي التراجيديا على مسارح أثينا ومن أبطال سباقات العدو لمسافات قصيرة (نحو 200 و400 متر)، العدو لمسافات طويلة (نحو 1500 و5000 متر)، القفز الطويل، رمي الرمح، سباق العربات (التي تجرها الخيول)، المصارعة، الملاكمة، وحتى قتال الشوارع (بانكراتيون)، على سبيل المثال. هذا، ومن الصعب تخيّل مجالات أخرى في اليونان القديمة – تصلح لأن يدخل أبطالها المنافسة على اللقب – مثل يوميّات شابة بالغة الجمال أو الدلال، فقد كان على الحضارة الإنسانية أن تنتظر لأكثر من ألفي عام لا لتتيح فقط ترفاً من ذلك القبيل بل لتتوّج بطلات وأبطال هذا الترف بالألقاب الرفيعة وتغدق عليهم من المال ما يتجاوز الخيال.
وإذا كان فلاسفة ومفكّرو هذه الأيام ينعَون حظّهم من المتابعة قياساً إلى الأدباء الذين يقدّمون سلعاً ثقافية أكثر رواجاً من قبيل "الروايات التجارية" (والمصطلح شائع في الولايات المتحدة إشارة إلى الروايات التي لا تُعنى بمضامين فكرية عميقة، حتى إذا كانت مُحكمة الكتابة من الوجهة الفنية البحتة)، فإن الروائيين الأكثر مبيعاً يشكون بدورهم من تدنّي سلعة الأدب عموماً قياساً إلى سلع صانعي المحتوى الآخرين كأولئك المهتمّين بمواضيع الرياضة والغناء و"الإتيكيت" على سبيل المثال؛ وهؤلاء الأواخر يجادلون أيضاً لأن العبرة في رأيهم بالمحتوى جيّد الصناعة لا بموضوعه مجرّداً، وذلك على اعتبار أنه لا تفاضل بين مجالات الحياة بصفة مطلقة، ثم يطلقون بدورهم شكواهم فيما يخصّ آخرين من صُنّاع المحتوى يقدّمون بضاعة يرونها "تافهة" لا تتجاوز تفاصيل مثيرة للفضول تتعلّق بالحياة اليومية المعتادة لشابة فاتنة الجمال أو أخرى بالغة الدلال؛ والأخيرة تردّ على أولئك جميعاً نهاية المطاف: ولِمَ لا؟ ما المانع من تقديم موضوع "تافه" في قالب بديع، ثمّ إن تصنيف المواضيع بين القيّم والتافه – والكلام لا يزال لبالغة الدلال – مسألة نسبية وليست محسومة على الإطلاق.
باستصحاب كل ما سبق في الاعتبار، هل المتابعون الأكبر عدداً، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو على أي نطاق في أي زمان ومكان، دليل على الأفضلية؟ من المستحيل الإجابة بنعم مطلقة، ليس فقط لأن الأفضلية لا تتعلق بأكبر عدد من المتابعين/المعجبين أو لأن ثمة العديد من الاعتبارات الأخرى بصفة عامة، وإنما تحديداً لأن القيمة العددية نفسها قد تكون مضلّلة، إذ كثيراً ما تشكّل الغالبية على حساب ما مجرّد متابعة سلبية، أي أرقام تظهر دون تفاعل يُذكر مقابل تفاعل أشدّ حدّة وأعمق تأثيراً من قبل حسابات أخرى تتضمّن أرقاماً أدنى مجملاً للمتابعين.
الأمر ليس مقصوراً على وسائل التواصل الاجتماعي فحسب؛ حتى الصحف اليومية الذائعة في عالمنا العربي وفي الغرب ينطبق عليها القانون نفسه: أوسع الصحف انتشاراً قد يكون مما يُطلق عليه اللقب الحانق "صحف صفراء"، وقد يكون من لون آخر أقلّ حدّة في الدلالة على الانسياق خلف سفاسف الأمور، في حين تقبع الصحيفة التي تحظى بالمصداقية والاحترام في المرتبة الثالثة أو الرابعة رجوعاً إلى أرقام التوزيع.
"الأفضل" معضلة فلسفية لأن معيار الأفضلية دوماً محلّ خلاف؛ ولعلّ المعضلة الفلسفية/الفكرية تشتدّ تعقيداً عندما لا تعود المقارنة بين "أفضلين" وإنما بين "الأفضل" و"الأكثر"، فقد يشير "الأكثر" نفسه إلى ما هو أفضل بالفعل رجوعاً إلى معيار بعينه، وقد لا يشير.
وهكذا يظلّ الجدال دائراً، فيبدو أنصار "الأكثر" أشدّ اطمئناناً لسهولة الاستشهاد بحساب الأرقام وما تدرّه من العوائد المادية على كل صعيد، في حين يستغرق أنصار "الأفضل" في محاولات لا تنتهي لإثبات المراد بالأفضلية، فضلاً عن تكبّد مشاق إقناع خصومهم بجدواها.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])